نُقِل عن عبد الله بن المعتز أنه قال:"البلاغة بثلاثة أمور: أن تغوصَ لحظةُ القلب في أعماق الفِكْر، وتجمعَ بين ما غاب وما حَضَر، ثم يعود القلبُ على ما أُعمِلَ فيه الفِكْرُ فَيُحكِمُ سياق المعاني، ويُحسِن تنضيدَها، ثم يبديها بألفاظٍ رشيقةٍ مع تزيين مَعارِضِهَا، واستكمال محاسنِها".
واعلم أنه قَلَّمَا يستطيع الكاتب أو الخطيب أن يتناول الموضوعَ من أوله إلى نهايته دَفْعَةً واحدة، فإن هو كَلَّف عَقْلَه ذلك أرهقه ضَجَرًا، ولاسِيَّمَا عند تَشَعُّبِ الموضوع وكثرة المعاني فيه، فيكادُ ييأسُ من المقدرة عليه؛ إذ تلوح له معانٍ كثيرةٌ فَيَرُوعُه انتشارُها ولا يدري كيف يبتدئُها، ولكنه إن اتَّبَع هاتِه الطريقةَ المشروحةَ، ورَتَّبَ المعاني الأساسية، وآخَى بين المعاني الفرعِيَّة التي هي من نَوْعٍ واحدٍ، وأحسنَ ترتيبَها، فذلك وقتُ رَفْعِ القَلَم من الدَّوَاة للكتابة، أو وقت الانتصاب للخَطابة؛ لأنَّ ثِمَار الفِكْر قد أينعت وآن قِطَافُها.
مِثالٌ للتمرين:
كتب ابن الأثير في الزُّهْد في الدنيا ما يأتي:
"الناس في الدنيا أبناء السَّاعة الرَّاهنة، وكما أنَّ النفوسَ ليست بقاطنة، فالأحوال ليست بقاطنة، ولا شبيه لها إلا الأحلامُ التي يتلاشَى خيالُها عاجلاً، وتجعَلُ اليَقَظَةُ حقَّها باطلاً، وما ينبغي حينئذٍ أن يُفرَح بها مقبلة، ولا يؤسى عليها مُدْبِرَة، وكلُّ ما تراه العَيْنُ منها ثم