لأنها لما كانت مشتملةً على أمور عُمومِيَّةٍ أمكنَ تحضيرُها من قبلُ في النَّفْس، وإنما يظهر الحِذْقُ في حُسْنِ مناسبتها للغَرَض وإشارتها إليه. وقد عَدَّ علماء البلاغة فاتحة الكلام من مواطن تأنُّق المتكلِّم.
الثاني: التَّخَلُّصُ: وهو مَوْقِعُ (أمَّا بعدُ) ونحوها، مثل:(أيُّها الناس)، والشرط فيه أن تكون الدِّيبَاجَة قد هيَّأت النفوس، وأشعرت بالغَرَض المطلوب.
الثالث: المقدِّمة: وهي مَبْدَأ الخطبة في الحقيقة، ونعني بها الكلام الذي يُقصَد منه تهيئة نفوس السامعين لتلقِّي ما سَيُلقَى إليهم بالتَّسليم.
وطريقة ذلك: أن يستعين الخطيب بما يَعْلَمُ من سَجَايا الأقوام ومقادير انفعالاتهم، على اختلاف الطبقات والعصور والعقائد، فيأتي لكل فريق بمقدِّماتٍ تهيئ لقَبول الغرض، ولذلك لم يلزم أن تكون المقدمة صحيحةً، بل يكفي أن تكون مقبولةً مسلَّمة، ولو كانت وَهْميَّةً.
وقَصْدُ الخطيبِ قَمْعُ الهوى ومحاولةُ الصَّلاح، والهوى حائلٌ قويٌّ دون الحق، فإذا أُرِيد الإقناعُ بشيءٍ فمن الواجب ألا يَنْقَضَّ عليه، بل يحومُ حوله وينتهزُ الفرصة لتحصيله، وبمقدار الظن بِبُعْدِ نفوس السامعين عن الاعتراف بالحقِّ ينبغي للخطيب الإبعادُ بالمقدِّمات.
ويتوصَّل الخطيب إلى انتهاز الفرصة التي تقوم مقام تطويل المقدِّمة بالاستعانة بأمور:
أحدها: المعتقَدات الثابتة في النفوس، ولو كانت غير صحيحة كما أشرنا إليه، ويظهر اختيار بعض طرائق الانفعال دون بعضٍ في هذا المجال، وهو من أهم ما يتفطَّن له الخطيب اللبيب، ألا ترى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا خَطَب النساء ورَغَّبَهُنَّ في الصَّدَقة قال: "يا معشر النِّسَاء: