التضجُّر بالقول. وإن كان إنشاءً فالنظر إلى ترتيبِه بحسب حصولِ مدلولِه عند الامتثال، وقد يتعيَّنُ هذا كما في حكاية الأخبار المحزِنة؛ فإنَّ حكايتَها على ترتيبها الطبيعي يهيئ النفس لتلقِّيها، كما يهيِّئُها لذلك حصولُها في الواقع تدريجيًّا، فإنك لو رُمْتَ الإخبار بوفاةِ مَنْ تَرُوعُ المخاطَبَ وفاتُه، لَرَأَيْتَ أنَّ حكايةَ مرضِه وأطوارِه، ثم وقوعِ اليأس من شِفَائِه، ثم الخبر بموته أهونُ في النفس مما لو فُوجِئَتْ بالإخبار بموته.
وقد يخالَف مقتضى الظاهر، كتقديم ما شأنُه التأخير لِغَرَضٍ، مثل تعجيل المسرَّة، أو قطع نزاع المنازِع قبل أن يلَجَّ في الخصومة فيكابرُ ولا يرجع إلى الحقِّ، أو للتنبيه على المقصود، مثل الافتتاح بدعاء مناسب، أو نحوه، ويسمَّى:(براعة الاستهلال) كقول بعض الكُتَّاب التونسيين يخاطب رئيس ديوان الإنشاء في الدولة الصَّادقية متشكِّيًا من بعض أهل الشَّوْكَة: "سيدي: نفوسُنا تَفْدِيك، والله تعالى مِنْ سُلْطَةِ أهلِ الوَظَائِفِ بدون استحقاقٍ يَقِيك". وقول الحريري -في جواب الذي جاوب أبا زيد السَّروجي حين وَقَفَ له موقفَ الزائر المُستَرْفِدِ-:
وَحُرْمَةِ الشيخِ الذي سَنَّ القِرَى ... وأَسَّسَ المَحْجُوجَ في أُمِّ القُرَى
يريد إبراهيمَ - عليه السلام -.
وقد بُيِّنَ في علم المعاني كثيرٌ من المناسبات الداعية إلى التقديم والتأخير في أجزاء الجملة، فلا نُطيل بها هنا، ولكن يجب أن يُعلَم السَّبب في تقديم ما حقُّه التأخير وعكسه من جُمَل الكلام، وقد تَتبَّعْتُ ذلك حسب الجهد فرأيتُ أنَّ مِلاكَ ذلك إما استبقاءُ الذِّهْن لما هو أولى بالإيعَاء، وتهيئة السمع لما هو أجدر بالإصغاء، وإما الاستراحة من