وهذا توبيخٌ وتقريعٌ؛ لأنَّه قد أوجب بما تقدَّم انفعالَ نفوسِهم لِقَبوله، أي لا تكونوا سببًا لزوال سُلْطانِكم بالتعرُّضِ لسَخَط الله.
إذ لا شك أن هذا المؤمنَ الصَّالحَ كان يتَرقَّبُ مِنْ قومِه الإجْفَالَ والتَّكَشُّفَ على إيمانِه، فأظهَرَ لهم الكلامَ في مَظهِر المُتَرَدِّدِ الخائف مِنْ حُلُول المصائب به وبقومه، لا المُنتَصِر لموسى - عليه السلام -.
وإنما تظهرُ مَواهِب الخطيب وحِكْمتُه وبلاغتُه في هذا المقام؛ لأنَّ مَنْ تكلَّم عن احتراسٍ وسوءِ ظَنٍّ بسامعيه حَاطَ لِنَفْسِه من الغَلَط؛ لأنَّ شِدَّة الثِّقَةِ بالنَّفْس تُغَطِّي على عَوارِها فلا يَتَّقِيه ربُّها.
ومن هذا أن يتركَ لنفسه بابًا لتَدارُك فائت، كما قال الحريريُّ في المقامة الثانية والعشرين -بعد أن ذكر استرسال أبي زيد السَّروجِيِّ في تفضيل كتابةِ الإنشاء على كتابة الحِسَاب-: "فلما انتهى في الفَصْل، إلى هذا الفَصْل، لَحَظ من لمَحَات القوم أنَّه ازْدَرَع حُبًّا وبُغْضًا، وأرضَى بعضًا وأَحْفَظَ بعضًا، فعَقَّب كلامَه بأن قال: ألا إنَّ صِنَاعة الحساب موضوعةٌ على التَّحقيق، وصناعة الإنشاء مَبنِيَّةٌ على التَّلفيق". هذا إن كان المتكلِّم مُفَاتِحًا بالكلام، فأما إن كان مُجِيبًا فقد يلاحظ من أصول المُجَادَلة ما يطول بسطُه هنا، وعلى كلِّ حال فعليه أن يَخْتَبِئ للمعترضين من الرُّجُوم، ما يَقِيه وَصْمَة الإرْتَاج عليه أو الوُجُوم.
وأما الأمر الرابع وهو قوَّة البَدَاهَة في استحضار المعاني وسماه أبو هلال في الصناعتين بـ (انتهاز الفرصة) فهي من أهمِّ ما يلزم