ويقبض على الجمرة المشتعلة بيده كما يقبض على البرتقالة الحمراء، ويعبث بلحية القاضي إذا هو بلغها كما يعبث بشعر الهرة ... إذا في مكانه تلميذ يقرأ مُكرَهاً، ويكتب مضطراً، ويحمل همّ المدرسة التي يذهب إليها كل يوم كالذي يُساق إلى الموت، لا يعرف لوجوده فيها معنى، ولا يدري فيمَ يدَعُ عطفَ أمه والأنسَ بإخوته، ولِمَ يترك بيته وما فيه من الدفء في الشتاء والظل في الصيف، ليذهب إلى هذه الدار التي يُحشَد فيها الأطفال الأبرياء المساكين لتحشى أدمغتهم بمسائل لا يدركون معناها، وشروح لا يعرفون مغزاها، وتنال من أبشارهم وظهورهم عصا المعلم الغليظة، وتقذى عيونهم برؤية طلعته البغيضة، لا المعلم يبسم لهم ويدعوهم إلى حبه، ولا أهلوهم يستمعون شكواهم وينصفونهم ... لقد كان في هذه المدرسة كالمحكوم عليه بالسجن ظلماً!
يا لهذا التلميذ البائس الذي لم يكد يفتح عينيه على الدنيا حتى أبصر الشقاء والألم. لقد مات كمداً ومضى مسرعاً في طريق الفناء ... مسكين!
إنه لم يكن إلاّ أنا، أنا الذي وُلدت ومتُّ مئة مرة، حتى صرت الآن ... «أنا».
-٤ -
وكان يوم آخر، فإذا (الفِلم) ينكشف هذه المرة عن منظر جديد: اختفى التلميذ الجميل، ذو السراويل القصيرة والقميص الأحمر والحقيبة الزرقاء الصغيرة، وذهب بجسمه ونفسه وميوله وأفكاره، وظهر الشاب الحليق الوجه، ذو (الربطة) الطويلة