والحَنابِلَةِ دَخلُوا مع الحَنَفِيَّةِ في ذلك، وسَمَّوْه الخَصْمَ المُسَخَّرَ. قال: وأمَّا على أصْلِنا الصَّحيحِ، وأصْلِ مالِكٍ، رَحِمَه اللهُ؛ فإمَّا أنْ نمْنَعَ الدَّعْوى على غيرِ خَصْمٍ مُنازِعٍ، فتَثْبُتُ الحُقوقُ بالشَّهاداتِ على الشَّهاداتِ، كما ذكَره مَن ذكَره مِن أصحابِنا، وإمَّا أنْ نسْمَعَ الدَّعْوَى والبَيِّنَةَ بلا خَصْمٍ، كما ذكَره طائِفَةٌ مِن المالِكِيَّةِ والشَّافِعِيَّةِ. وهو مُقْتَضَى كلامِ الإِمامِ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، وأصحابِنا في مَواضِعَ؛ لأنَّا نَسْمَعُ الدَّعْوَى والبَيِّنَةَ على الغائبِ والمُمْتَنِعِ، وكذا على الحاضِرِ في البَلَدِ في المَنْصوصِ، فمع عدَمِ خَصْمٍ أَوْلَى. قال: وقال أصحابُنا: كِتابُ الحاكِمِ كشُهودِ الفَرْعِ. قالوا: لأنَّ المَكْتُوبَ إليه يحْكُمُ بما قامَ مَقامَه غيرُه؛ لأنَّ إعْلامَ القاضِي للقاضِى قائِمٌ مَقامَ الشَّاهِدَين. فجعَلُوا كلَّ واحدٍ مِن كتابِ الحاكِمِ، وشُهودِ الفَرْعِ قائِمًا مَقامَ غيرِه، وهو بَدَلٌ عن شُهودِ الأَصْلِ، وجعَلُوا كِتابَ القاضِي كخِطابِه. وإنَّما خَصُّوه بالكِتابِ؛ لأنَّ العادَةَ تَباعُدُ الحاكِمَين، وإلَّا فلو كانا في مَحَلٍّ واحدٍ، كانَ مُخاطَبَةُ أحَدِهما للآخَرِ أبْلَغَ مِن الكِتابِ. وبنَوْا ذلك على أنَّ الحاكِمَ ثَبَت عندَه بالشَّهادَةِ ما لم يحْكُمْ به، وأنَّه يُعْلِمُ به حاكِمًا آخَرَ ليَحْكُمَ به، كما يُعْلِمُ الفُروعَ بشَهادَةِ الأُصُولِ. قال: وهذا كلُّه إنَّما يصِحُّ إذا سُمِعَتِ الدَّعْوى والبَيِّنَةُ في غيرِ وَجْهِ خَصْمٍ. وهو يُفيدُ أنَّ كُلَّ ما يثْبُتُ بالشَّهادَةِ على الشَّهادَةِ، يُثْبِتُه القاضِي بكِتابِه. قال: ولأَنَّ النَّاسَ بهم حاجَةٌ إلى إثْباتِ حُقوقِهم بإثْباتِ القُضاةِ، كإثْبَاتِها بشَهادَةِ الفُروعِ، وإثْباتُ القُضاةِ أنْفَعُ؛ لكَوْنِه كَفَى مُؤْنَةَ النَّظَرِ في الشُّهودِ، وبهم حاجَةٌ إلى الحُكْمِ فيما فيه شُبْهَةٌ أو خِلافٌ لرَفْعٍ (١)، وإنَّما يخافُون مِن خَصْمٍ حادِثٍ.