التاريخ ليست رصيداً من الكلام بل كتلاً من النشاط المادي ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه. وهذه الميزانية المكونة من صنوف النشاط الإيجابي هي في الحقيقة ميزانيات من القيم الثقافية تقوم على فصول الثقافة الأربعة: منهجها الأخلاقي، وفلسفتها الجمالية، وفنها الصناعي، ومنطقها العملي.
إننا حين عالجنا مشكلة الثقافة كنا نهدف إلى تبيان ضرورة التوجيه في الحياة الفكرية، تاركين جانباً المناقشة التي ستقرر إذا ما كان هذا الاتجاه يجب أن ينبع من ظروف الدولة طبقاً لاحتياجات البلاد، أي طبقاً لمنهج يفرض سيطرة التوجيه الجامعي، أو أن يصدر عن المنافع الشخصية والأذواق الفردية، أعني: عن التعليم الحر المنطلق، فمهما تكن الصورة التي نضع فيها المشكلة فمن الأهمية بمكان أن تحدد البلدان المتخلفة ثقافتها لتتدارك تأخرها، وتؤدي دورها في العالم بصورة فعالة.
ولكل بلد أن يحل هذه المشكلة بطرقه الخاصة، فكلّ الطرق تؤدي إلى هدف واحد ولكن بتوقيت مختلف. فالواجب أن نتجنب الطرق الطويلة، طرق الاعتباط والاستهواء، الطرق التي سلكتها الحضارات التي كان أمامها ما يكفيها من القرون ومن آلاف السنين؛ وبلغة التربية: يجب أن نطبق الطرق التي توجه الذكاء في اتجاه الحضارة، والتي تجعل تكوينها طبقاً للتطورات الضرورية في نطاق هذه الحضارة، فإذا ما صيغت المشكلة في تعبيرات هذه اللغة وجدناها تتجاوز بذلك النطاق القومي، لتقوم على أساس وضع (سياسة للثقافة)، تبعاً لتعبير الجمعية العامة الخامسة لمؤتمر الثقافة الأوروبية الذي انعقد في بروكسل في تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٥٥، أي أن المشكلة تتطلب في هذا الاتجاه (مؤتمراً للثقافة الأفرسيوية)، وربما عبّر البيان النهائي لمؤتمر باندونج عن هذه الضرورة تحت عنوان (التعاون الثقافي).