كان من نتيجة التحليل الذي قمنا به في الفصل الأول أن وضعنا أمام القارئ حقيقتين جوهريتين هما: الوجود الخاص للثقافة، ونوعية مشكلتها؛ وقلنا حين تناولنا الحقيقة الأولى: إنها ترسم الحدود الجغرافية والإنسانية للثقافة، ولكن ماذا يجري على هذه الحدود؟
لم يكن هذا السؤال ليثير اهتمام أحد سوى رجل دولة عندما يحدث أن تثور أمامه المشكلة في صورة اهتمام سياسي مؤقت، أو مؤرخ ملزم بحكم مهنته أن يحصي كل ما تجري به الأحداث التاريخية، كالمنازعات والاحتكاكات والأخطاء والاختلافات التي تنفجر على حدود ثقافتين، كما يسجل الاتصالات وألوان التبادل التي تمت بينهما في وقت معين.
لكنّ ما يقوم به رجل الدولة ليس سوى عملية سياسية، وما يقوم به المؤرخ ليس سوى الاهتمام بعمل قائمة إحصائية لعصر من العصور، وهذه العملية وتلك القائمة لا تدخلان في رصيد الثقافة إلا من وجهٍ غير مباشر، لأن ذلك هو ما تقتضيه الأشياء لا إرادة الإنسان.
وقد حدث أحياناً أن أحدثت طبيعة الأشياء (تراكيب هامة) على حدود ثقافتين، دون أن يسعى الإنسان إليها ودون أن يريدها.
فهناك مؤرخون يرون أن نهضة أوروبا في القرن السادس عشر، تعد تركيباً حققه الزمن والأحداث على الحدود بين الثقافة الإسلامية والعالم المسيحي؛