ولقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه العلاقة في صورة أخاذة تخلع على الأفكار وعلى الأشياء قيمتها العقلية، وفاعليتها الاجتماعية حين قال:
«مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً فكانت منها بقعة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير؛ وكانت منها بقعة أمسكت الماء، فنفع الله عز وجل بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا؛ وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ»[متفق عليه].
ففي هذا النص تدرج من الأعلى للأدنى في تصوير علاقة الفرد والمجتمع بالعلم، أي بالأفكار والأشياء.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد من هذا التدرج ذي الدرجات الثلاث أن يرمز إلى عصور ثلاثة يمر بها المجتع، يبدأ تاريخه بمرحلة يحدث فيها تقبل الأفكار وإبداعها وتمثلها؛ تليها مرحلة تبلغ فيها الأفكار إلى مجتمعات أخرى؛ ثم تعقب مرحلة يتجمد فيها عالم الأفكار فيصبح ليست لديه أدنى فاعلية اجتماعية.
فيمكننا أن نقول: إن المجتمع الإسلامي في عصر الفارابي كان يخلق أفكاراً، وأنه كان على عهد ابن رشد يبلّغها إلى أوروبا، وأنه بعد ابن خلدون لم يعد قادراً لا على الخلق ولا على التبليغ.
[طبيعة العلاقة الثقافية]
قلنا من قبل: إن القيمة الثقافية للأفكار وللأشياء تقوم على طبيعة علاقتها بالفرد، وإن (نيوتن) بدلاً من أن يأكل التفاحة قد استخرج معناها، إذ كانت صلته بعالم الأشياء جد مختلفة عما كان لجده في القرن الحادي عشر.
هذه الصلة تجسد لنا ما اصطلحنا على تسميته (بالعلاقة المتبادلة) بين سلوك الفرد وأسلوب الحياة في مجتمع معين، فهي الجانب العضوي من هذه العلاقة.