فقد بان إذن أن الفكرة والشيء لا يكسبان قيمة ثقافية إلا في ظل بعض الشروط.
وهما لا يخلقان الثقافة إلا من خلال اهتمام أسمى، بدونه يتجمد (عالم الأفكار) و (عالم الأشياء) حتى كأنه قطع من الآثار في متحف، فيفقد كل فاعلية اجتماعية حقة.
ويمكننا أن نفسر هذا الاهتمام الأسمى بالنسبة للفرد على أنه علاقة عضوية تربطه بـ (عالم الأفكار) و (عالم الأشياء). فإذا ما انعدمت هذه العلاقة لم تعد للفرد سيطرة لا على الأفكار ولا على الأشياء، فهو يمر بها دون أن يتصل بكيانها، ويتعلق بظواهر الأشياء دون أن يتعمقها، ويلم بالأفكار بعض إلمام دون أن يتعرف عليها.
وهذا الاتصال السطحي لا يؤدي مطلقاً إلى إثارة سؤال، ولا يخلق أبداً مشكلة. لقد استنطق نيوتن التفاحة لأن اهتمامه الأسمى قد تعلق بها، بينما لو حدث ذلك قبل نيوتن بألف عام مثلاً فمن أبسط الأشياء أن تُلتهم التفاحة، لأن الاهتمام الأسمى آنئذ غير موجود في المجتمع الإنجليزي الذي لم يكن قد ولد بعد.
وعكس ذلك تماماً ما حدث في المجتمع الإسلامي حتى القرن التاسع عشر، فإن أحداً في ذلك المجتمع لم تكن لديه قدرة ما على استنطاق فكرة ابن خلدون، لأن ذلك المجتمع لم يكن بعد قد أسس نشاطه العقلي والاجتماعي على اهتمام أسمى.
ومنذ ذلك العصر كان المسلم ينزلق على سطح الأشياء دون أن يغور خلالها، ويمر بجانب الأفكار دون أن يتعمقها، لأنه لم تعد له علاقة بهذه أو تلك، فلم يعد ينتج عن لقائه بالحياة الاجماعية تلك الصدمة القوية التي تغير أسلوبها كما تغير سلوكه.