إننا قدمنا في الفصول السابقة ما رأيناه ضرورياً لإبراز معنى الثقافة بوصفها (جواً) يمتص الفرد تلقائياً عناصره، من ألوان وأصوات وحركات وروائح وأفكار، يتلقاها لا بوصفها (معاني) و (مفاهيم مجردة)، ولكن بوصفها صوراً مألوفة يستأنسها منذ مهده.
ثم بيّنا كيف تذوب هذه العناصر في كيان المجتمع لتطبع أسلوب حياته، وفي كيان الفرد لتطبع سلوكه مع تفاعل مستمر بين هذا الأسلوب وهذا الأسلوب، في صورة التزام مزدوج بين الفرد والمجتمع، التزاماً لا يسمح معه هذا لذاك بأي نشوز في السلوك، ولا ذاك لهذا بأي انحراف في الأسلوب؛ إذ يتدخل في الحالة الأولى ما يسمى بالضغط الاجتماعي، وفي الثانية كل مواقف الفرد التي تعبر عن استنكاره، سواء بما نسميه اليوم النقد أو ما يشير إليه الحديث:«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[رواه مسلم]
وفي كل هذا العرض إنما تتبعنا الاطّراد الثقافي في طور تكوينه، ولكن ماذا يحدث في الاطّراد العكسي عندما يزول (الجو) الثقافي، ويتعذر تركيب العناصر الثقافية في منهج تربوي، أي عندما تنشأ أزمة ثقافية؟
يجب أن نحدد أولاً هذه العبارة: ماذا نعني بـ (الأزمة الثقافية)؟ إن الجواب عن هذا السؤال يتأتى بطريقة مباشرة، فكلما عمل المجتمع واجبه في السهر على سلوك الأفراد- بدعوى الحرية، أو أية دعوة أخرى- وزال الضغط