لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالاً على أنّ قولهم: لا سمعت، دعوة مستجابة؛ أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه: غير مسمعٍ جواباً يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئاً؛ أو اسمع غير مسمعٍ كلاماً ترضاه، فسمعك عنه نابٍ. ويجوز على هذا أن يكون (غَيْرَ مُسْمَعٍ) مفعول "اسمع"، أي: اسمع كلاماً غير مسمع إياك؛ لأن أذنك لا تعيه نبوّاً عنه. ويحتمل المدح، أي: اسمع غير مسمع مكروهاً، من قولك: أسمع فلان فلاناً: إذا سبه. وكذلك قولهم (راعِنا) يحتمل: راعنا نكلمك، أي: ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانيةٍ كانوا يتسابون بها، وهي: راعينا، فكانوا سخرية بالدين، وهزؤا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة، ويظهرون به التوقير والإكرام.
قوله:(لأنه لو أجيبت) تعليل قوله: ((يحتمل الذم)) أي: (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يحتمل الذم؛ لأنه لو أجيبت دعوتهم لكان أصم، فعلى هذا (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يجري مجرى اللازم واردٌ على الدعاء، ولهذا لم يقدر له معمولاً كما قدره في الوجوه الآتية.
قوله:(ويجوز على هذا) أي: على أن يكون المعنى: اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه لجامع نبو السمع عن المسموع. واعلم أن قوله:(غَيْرَ مُسْمَعٍ) إما حالٌ من فاعل ((اسمع))، أو مفعولٌ به؛ وعلى الأول: إما هو من حذف المتعلق للتعميم، أو مُجَرى مجرى اللازم، وهو المراد من قوله:((وأنت غير مسمع)) أو يقدر له معمولٌ إما جواباً أو كلاماً. ولما كان هذا المعنى الأخير موافقاً لتقدير المفعول به قرنه به.
قوله:(يحتمل: راعنا نكلمك) إلى آخره، جملةٌ مستأنفةٌ على سبيل البيان لوجه التشبيه، أي: قولهم هذا أيضاً قولٌ ذو وجهين يحتمل إذا أريد (رَاعِنَا) نكلمك، والذم إذا كانت شبه كلمةٍ عبرانية.
قوله:(فكانوا سخريةً) مسببٌ عن قوله، وهو قوله:(قولٌ ذو وجهين))، يعني: إذا كان هذا القول ذا وجهين فهم أهل سخرية، أو كانوا يكلمونه سخريةً واستهزاءً.