وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو أرفع منه درجةً، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقرّبون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرةً بينة تخصيص المقرّبين؛ لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلةً. ومثاله قول القائل:
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذى الأمواج: ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله:(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى)[البقرة: ١٢٠]
النصارى، وتبين بقوله:{وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} الآية، أن الكلام في العبودية ونفي الاستنكاف لا الأفضلية؛ لكونه تذييلاً للكلام السابق.
قوله:(وما مثله ممن يجاود) البيت، أي: وما مثله حاتمٌ مما يجاود، وقيل: الصواب: وما مثله ممن يجاوده حاتم، أي: لا يقدر حاتم على مجاودة مثل الممدوح، وجاودت الرجل، من الجود، مثل: ما جدته من المجد، التج البحر: ارتفع.
قوله:(فليذق مع هذه الآية) أي: ليجرب الفكر ليعلم أن الفرق بينهما في معنى الأفضلية. أما الموازنة بين الاثنين فهي أن قوله:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى}[البقرة: ١٢٠] كلام واردٌ في انتفاء الرضا عن الفريقين على المبالغة؛ نفي الرضا أولاً عمن هو أبعدُ في الرضا وهم اليهود، ثم عمن هو أقرب إليه وهم النصارى، على معنى: لا يرضى عنك من هو أقرب إلى الرضا وهم النصارى، فكيف بمن هو أبعد منه؟ لقوله تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية [المائدة: ٨٢]. فالمعنى على زعمه: لن يستنكف الملائكة المقربون مع جلالتهم وقرب منزلتهم من أن يكونوا عبيداً لله، فكيف بالمسيح الذي هو دونهم؟ وقلت: قد مر أنه من باب التتميم لا الترقي.