قال تعالى: {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور {[الحج: ٤٦]، فلم يعد فقد البصر عمىٍ بالإضافة إلى فقد البصيرة. وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ {يعني بذلك كلا النورين، وكلتا الظلمتين".
وأما المعنى والنظم: فإن لفظة "ثم" الاستبعادية في قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا {تقتضي أن يكون ما قبلها مما يوفى فيه جميع ما يزيل الشبهة عما بعدها من الكفر والعدول عن الحق إزالةً تامة، بحيث لا يبقي معه لأحدٍ متمسك يتشبث به، كقوله تعالى: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا {[السجدة: ٢٢]. وذلك إنما يتم إذا حمل قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ {على نصب الأدلة على معرفة الله وتوحيده، وقوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ {على وضع الشرائع، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، لبيان طرق الضلالات، والإرشاد إلى الطريق المستقيم.
ومثله قرر المصنف في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ {[آل عمران: ١٨] حيث قال: "شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد بشهادة الشاهد في البيان والكشف".
وتلخيص المعنى: أنه لم يبق بعد تلك البيانات الشافية، والدلائل الواضحة، حجة وتشبث للراكب على متن الضلال؛ فبعيد من الناظر المهتدي، بعد ذلك، ألا ينخلع من ضلاله وكفره، مع ذلك هؤلاء يعدلون به ما لا يقدر على شيءٍ من ذلك.