بل الأسلوب من باب اللف والنشر، فقوله:(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) مفرعٌ على قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، كما أن قوله:(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) مبني على قوله: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ)، يعني: لما أوجبنا عليهم القول، وقدرنا أنهم من أصحاب النار، فلا يؤمنون ألبتة، ولو جاءتهم كل آية، حتى يصلوا إلى ما قُدر لهم من العذاب الأليم، وكذلك نجعل الرجس - أي: أدناس الشرك والعصيان والعناد- على الذين ختمنا على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم، كقوله تعالى:(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)[البقرة: ١٧١].
المعنى: إذا كان إيمان من في الأرض كلهم معلقاً بمشيئة الله وإرادته، فلا يصح ولا يستقيم أن يؤمن أحد إلا بإذن الله ومشيئته، فلا تقدر أنت أن تكرههم على الإيمان، وإذا سبق التقدير، وحقت كلمة العذاب على الكفرة، وجفت الأقلام، فلابد أن يُجعل الرجس عليهم، والطبع على قلوبهم وعلى سمعهم، حتى لا يعقلوا آيات الله، ولا يلتفتوا إلى إرشادك، ولو جئتهم بكل آية.
تأمل يا أيها الناظر في هذه الآيات، واقطع بأن الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية: تابعة لمشيئة الله وإرادته، جارية بقضائه وقدره، ولا ترى كلاماً أجمع من هذا، ومن حاول تحريفه زل وضل، هيهات! جرى الوادي فطم على القرى، واتسع الخرق على الراقع.