الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني، وأكثرهم مفتر عليه. فإن قلت:(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ)[الشعراء: ١٩٢]، (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ)[الشعراء: ٢١٠]، (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) لم فرق بينهنّ وهنّ أخوات؟
قوله:(ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالكذب)، يريد أن "فعالاً" فيه دلالةٌ على التكثير لا الاستغراق، فنبه أولاً بقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} على أن الشياطين ينزلون على من دأبه الإفك والكذب. ثم بين ثانياً بقوله:{وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} على أن أكثر هؤلاء الأفاكين بناءً على دأبهم وعادتهم يفترون على الشياطين فيما يتلقون منهم، لأنهم يزيدون على ما يسمعون كما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة.
ويجوز أن يرجع الضمير في "أكثرهم" إلى الشياطين، والحديث يحتمله أيضاً، قال القاضي:{وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فيما يوحون به إليهم، أو يسمعونهم لا على وجه ما تكلمت به الملائكة عليهم السلام، لشرارتهم، أو لقصور فهمهم.
قوله:(لم فرق بينهن وهن أخواتٌ)، يعني: أن هذه الآيات الثلاث نازلةٌ في شأن القرآن، وفيما ينبغي أن يقال فيه وما لا ينبغي، فلم لم تجئ على نسقٍ واحدٍ ولم يقل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، فإنها واردةٌ على وتيرةٍ واحدة؟ ولم فرق بينهن بآياتٍ متباعدة المعاني؟ وحاصل المعنى: أنها كالتراجيع للمعاني التي تخللت بينهن، فإن قوله تعالى:{لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كالترجيع من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما بدئ منه في فاتحة السورة من ذكر الكتاب وتكذيب القوم له. وقوله:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} مذكورٌ بعد إهلاك القرى المنذرة. وقوله:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} مسوقٌ بعد النهي عن إدعاء غير الله