فإن الكهانة تدعو إلى الشرك، والشرك وأهله في النار. وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدّة عمره، فرأى في منامه كأن خيالًا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس، فاستفتى العلماء في ذلك، فتأوّلوها بخمس سنين، وبخمسة أشهر، وبغير ذلك، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله: تأويلها أنّ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أيان مرساها (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في إبانه من غير تقديم ولا تأخير، وفي بلد لا يتجاوزه به (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) برّة أو
وأمّا دلالةُ {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} على عِلْمِ الغَيبِ، فمِنْ حيثُ دلالةُ المقدورِ المُحْكَمِ المُتيقَّنِ على العِلْمِ الشّاملِ، هذا على تقديرِ أنْ يُعطَف ((يُنَزّل)) على الظَّرْفِ، وأمّا إذا عطف على {السَّاعَةِ} المضافِ إليها، فيكون ((يعلم)) وما عُطِفَ عليه مَسُوْقًا على المضاف والمضاف إليه، يعني: عنده عِلْمُ السّاعةِ وإنزال الغيثِ، وعنده عِلْمُ ما في الأرحام وعِلْمُ ماذا تكسب كُلُّ نفسٍ غدًا. هذا على تقدير حذف ((أن)) كما مَرَّ، فإفادة الحصر إذن من تقديم الخبر على المبتدأ.
فإن قلت: ما تلك النُّكتةُ التي دَعَتْ إلى العدول عن المُثْبتِ إلى المَنْفِيِّ في قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ}؟
قلت: هي أنَّ في نفي الدِّرايةِ المخصوصة وتكريرها واختصاصها بالذِّكْرِ دون العِلْمِ لِما فيها من معنى الحِيلةِ والخِداعِ، وفي تكريرِ النَّفْسِ وتنكيرها وإيقاعها في سياق النَّفيِ وتخصيصِ ما هو من خويصّةِ كُلِّ نَفْسٍ الدلالةَ على أنَّ النَّفْسَ إنْ لم تَعرفْ ما يُلْصَقُ بها ويَخْتَصُّ بها وإن أَعْمَلَت حِيلَتَها، ولا شيء أَخَصُّ بالإنسان من كَسْبِه وعاقبتِه، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفةِ ما عَداهما أَبعدُ، أعني: من معرفة وقتِ السّاعةِ، وإبَّانِ إنزالِ الغيث، معرفةِ ما في الأرحام.