فإن قلت: لم خصّ المؤمنات، والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات؟ قلت: في اختصاصهنّ تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به أن يتخير لنطفته، وأن لا ينكح إلا مؤمنة عفيفة، ويتنزه عن مزاوجة الفواسق، فما بال الكوافر! ويستنكف أن يدخل تحت لحاٍف واحٍد عدوة الله ووليه، فالتي في سورة المائدة: تعليم ما هو جائز غير محرّم، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات. فإن قلت: ما فائدة "ثم" في قوله: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ)؟ قلت: فائدته نفى التوهم عمن عسى أن يتوهم تفاوت الحكم بين أن
منقولةً شرعيةً لا أنه كِنايةٌ فصَحَّ قولُه: و ((مِن آدابِ القرآنِ الكنايةُ عنه بالملامسةِ)) يعني: لا يرادُ به الكناية، بل الاصطلاح؛ لأن من آدابِ القرآنِ عكسَه.
قولُه:(وهذه فيها تعليم ما هو الأولى)، وبيان الاختصاص أن ما في ((المائدة)) وردَت في بيانِ تحريمِ ما يجب تحريمُه وتحليلِ ما هو مباحٌ من الأطعمة والأنكحة كما قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}[المائدة: ٥] ففيها تعلُّمُ ما هو جائزٌ غيرُ مُحرَّم. وأما اختصاص هذه الآية بما ذكر فهو أنها عقيب قوله:{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}، فجُعِلَت تخلُّصًا إلى ذكر ما هو الأفضلُ والأولى والأطيبُ والأزكى بحاله صلى الله عليه وسلم من النساء وما يتعلَّق بهن، فطبّقت لذلك مَفْصِلَ البلاغة.
قولُه:(نَفْيُ التوهُّمِ عمَّن عسى أن يتوهَّم)، يعني: لا تفاوتَ في عدمِ وجوبِ العِدَّة عليها سواءٌ كانت قريبةَ العهدِ بالنكاحِ أو بعيدتَه منه؛ وذلك أن المرأةَ إذا تراخى بها المدة في حِبالةِ الزوجِ استأنسَ كل واحد بصاحبه وربما توقّعَ الرجلُ من توهُّمِ عُلْقَةِ الزوجية وقد تَقَّرر عندَه أَنّ العِدَّةَ حقٌّ واجبٌ للنساءِ على الرجالِ فجيء بـ ((ثُمَّ)) لإزالةِ هذا التوهمِ وبيانِ أنّ العُلْقةَ إنما تتمُّ بالدخول. قال القاضي: فائدة ((ثمّ)) إزاحةُ ما عسى يتَوهَّمُ متوهِّمٌ أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابةُ كما يؤثِّر في النسب يؤثِّر في العدة.