بلغ من عظمه وثقل محمله: أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته. (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم؛ من ذلك قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب؟ لقال: أسوى العوج. وكم وكم لهم من أمثاٍل على ألسنة البهائم والجمادات! وتصوّر
روى صاحبُ ((المُطْلع)) عن الأزهريِّ قال: ما علِمْتُ أحدًا فَسَّر هذه الآيةَ ما فَسّرَهُ أبو إسحاقَ الزجّاج رَحِمه الله.
هذا والذي عليه الاعتماد: أنَّ الله عز وجلَّ قادِرٌ بقُدْرتِه على أن يخلِقَ في كُلِّ ذَرّةٍ من ذَرّاتِ الكائناتِ العلمَ والحياة والنُّطقَ للتخاطُب.
روى مُحيي السنّة رَحمِه الله: عرضَ اللهُ الأمانةَ على أعيانِ السماواتِ والأرضِ والجبال. وعليه جماعةٌ من التابعين وأكثرُ السّلف فقال لهن: أتَحْمِلْنَ هذه الأمانةَ بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسَنْتُنَّ جوزيتنَّ وإن عَصَيْتُنَّ عُوقِبتُنَّ، قُلْنَ: لا يا ربُّ لا نُريدُ ثوابًا ولا عِقابًا خشيةً وتعظيمًا لدينِ الله، وكان العرْضُ تخييرًا لا إلزامًا، ولو ألزمَهُنَّ لم يمتَنِعْنَ من حَمْلِها، والجماداتُ كلّها خاضعةٌ لله ساجدةٌ له، لقوله تعالى:{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت: ١١]، وقوله:{أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ}[الحج: ١٨] الآية. قال: بعضُهم: ركَّبَ الله فيهن العَقْلَ والفهْمَ حين عرضَ الأمانةَ عليهِنَّ حتى عقَلْنَ الخِطابَ وأجَبْنَ بما أجَبْنَ. تمَّ كلامُه، والله أعلم.
قولُه:(ثم خاسَ بضمانه)، الأساس: خاسَ بعَهْدِه وبوَعْده: إذا نكَثَ وأخْلَفَ، وخاسَ بما كان عليه. قال ابنُ الدُّمَيْنَة:
فيا ربِّ إنْ خاسَتْ بما كانَ بيننا … من الودِّ فابعَثْ لي بما فعلَتْ صبرا