فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم. فإن قلت: كيف ترادفت هذه الفاءات؟ قلت: أما قوله: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ}: فهو نتيجة قوله: {كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ}، وأما قوله:{فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ}: فجار مجرى البيان والتفسير، لقوله تعالى:{فَما أَغْنى عَنْهُمْ}، كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله: {لَمَّا رَأَوْا
للفعل المنفي، كأنه قيل: هذا الفعل من الشؤون التي عدمها راجح على الوجود، وإنها من قبيل المحال.
قوله:(أما قوله: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ}: فهو نتيجة قوله: {كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ})، لكن على القلب، يعني: اجتمعوا وتحشدوا مع قوة أجسادهم وحصلوا ما زاد في قوتهم من المال والمنال وما يلجئون إليه من الحصون والمصانع لتغنيهم إذا حزبهم أمر الإغناء التام، فانقلب التدبير عليهم وما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، وما أحسن ما قال:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم .... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
واستنزلوا من أعالي عن معاقلهم .... فأسكنوا حفرًا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا .... أين الأسرة والتيجان والحلل؟
أين الوجوه التي كانت منعمة .... من دونها تضرب الأستار والكلل؟
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم .... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا يومًا وما شربوا .... فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا
قوله:(فجار مجرى التفسير والبيان، لقوله تعالى:{فَما أَغْنى عَنْهُمْ})، نحو قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}[البقرة: ٥٤] إذ لا بد لنفي الاغتناء من سبق معالجة منهم وتصور دفعهم من ينازعهم بمكسوبهم، يعني: جمعوا وفعلوا كيت وكيت، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات لبعثهم على رفض ما جمعوا، والظلف عن ملاذ الدنيا والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واعتقدوا أنه لا علم أنفع للفوائد من علمهم، وما قصروا في الدفع،