قال الله تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}[النساء: ٧٨]، يريد: ما يسوءهم من المصائب والبلايا، والمعنى: أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة، فإذا قال: أخزاك الله، قال: أخزاك الله.
{فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ} بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء، كما قال:{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: ٣٤]، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}. عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم، وقوله:{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء، خصوصًا في حال الحرد والتهاب الحمية، فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر.
وعلى ربهم يتوكلون صفتين، وأن حالهم تارة إذا ما غضبوا هم يغفرون، وأخرى إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، أرشدهم إلى خير الفضيلتين وأولى الحسنتين، فقال:{وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}، ولهذا ختم الآيات بقوله:{ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، أي: لمن معزومات الأمور، ومن شيم أولي العزم من الرسل.
النهاية:"العزم يجيء لمعنيين؛ بمعنى الجد والصبر، وبمعنى الفرائض".
قوله:(فربما كان المجازي من الظالمين وهو لا يشعر): وقلت: فعلى هذا يكون قوله: {فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} اعتراضًا، والفاء مانعة منه، ويمكن أن يقال: أن المجازي لما نسب إلى المساءة في قوله: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} -كما تقرر-، والمسيء في هذا المقام مفسد لما في البين، بدليل قوله:{فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، علل مفهوم ذلك بقوله:{إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، كأنه قيل: من أخرج نفسه بالعفو والإصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد: كان مقسطًا-أي: سالبًا عن نفسه القسط، أي: الجور-، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. فوضع موضعه:{فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وهو كما قال:"عدة مبهمة". ومن اشتغل بالمجازاة، وانتسب إلى السيئة، وأفسد ما في البين، وحرم على نفسه ذلك الأجر الجزيل: كان ظالمًا على نفسه {إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.