لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها، أنبع ذلك أنّ له الملك، وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد، ويهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته، فيخص بعضًا بالإناث، وبعضًا بالذكور، وبعضًا بالصنفين جميعًا، ويعقم آخرين، فلا يهب لهم ولدًا قط.
فإن قلت: لم قدّم "الإناث" أوّلًا على "الذكور" مع تقدّمهم عليهنّ، ثم رجع فقدّمهم، ولم عرف "الذكور" بعد ما نكر "الإناث"؟ قلت: لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته،
الجنس موسوم بكفران النعم، فجعل ذم "الإنسان" الثاني المطلق دليلًا على ذم هذا المقيد، ولذلك قال:"ليسجل".
قوله:(لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها، أتبع ذلك أن له الملك): شرع في بيان النظم، ولم يبين، وإنما المراد أن ليس موجب إذاقة النعمة من الله الفرح والبطر والأشر، بل هي موجبة للحمد والشكر لموليها، كما ليس إصابة السيئة منه تعالى سببًا للكفران، بل للإنابة والرجوع إلى منيلها، لأن له الملك والملكوت، وله التصرف في ملكه ما يشاء كيف يشاء، وليس على الإنسان إلا الشكر عند الآلاء، والصبر عند البلاء، وإليه الإشارة بقوله:"لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه، لا ما يشاؤه الإنسان".
قوله: _لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى) إلى آخره: قال صاحب "التقريب": وفيه بحث، إذ يمكن معارضته بأن الآية السابقة ذكر فيها الرحمة مقدمة على البلاء، فناسب هذا تقديم الذكور على الإناث، لا يقال: سياق الكلام أنه فاعل ما لا يشاؤه الإنسان، فكان ذكر ما لا يشاؤه الإنسان -وهو الإناث- أهم، فيكون أحق بالتقديم؛ لأنا نقول: السياق أنه لا يفعل ما يشاؤه الإنسان، لا أنه يفعل ما لا يشاؤه الإنسان.