يزال كذلك إلى أن يصمت، وكنت أراه حينئذ كأنه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب ويحير الأبصار والعقول، وكان لا يذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط إلا ويصلي ويسلم عليه، ولا والله ما رأيت أحدًا أشد تعظيمًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحرص على أتباعه، ونصر ما جاء به منه حتى إذا كان ورد شيئًا من حديثه في مسألة، ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل بهأ ويقضي ويفتي بمقتضاه أولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنًا من كان.
وقال -رضي الله عنه- كل قائل إنما يحتج لقوله لا به إلا الله ورسوله"انتهى
وحكى عنه أنه سأله عن إكثاره في التأليف في الأصول، وأنه لو ألف مصنفًا في الفقه جامعًا تكون عمدة الفتوى عليه، فأجابه:" الفروع أمرها قريب، ومن قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين، جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه.
وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة والقائلين بوحدة الوجود والدهرية والقدرية والنصيرية والجهمية والحلولية والمعطلة والمجسمة والمشبهة والراوندية والكلابية والسليمية وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال، وبان لي أنَّ كثيرًا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية الظاهرة العلية على كل دين، وأنَّ جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم؛ ولهذا قل إن سمعت أو رأيت معرضًا عن الكتاب والسنة مقبلاً على مقالاتهم إلا وقد تزندق، أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده.