ومعنى ذلكَ: أنَّ الأمرَ الَّذي تعمُّ به البلوَى هوَ الأمرُ الشَّائعُ المنتشِرُ المُعلنُ، فلو وقعَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال فيهِ قولاً أو فعلَ فعلاً فالدَّواعي متوافرَةٌ على حفظِهِ ونقلهِ، فيجبُ أن لا يُقبلَ إلاَّ إذا رواهُ الجمعُ الكبيرُ، إّْ لا يُحتملُ مثلُهُ من الرَّاوي الفرْدِ، ويُقالُ: أينَ كانَ غيرُهُ من حفظِهِ وروايتِهِ؟
وهذا في التَّحقيقِ لا أثرَ لهُ، ولو رجعَتْ إلى ما تقدَّم ذكرُهُ من الفوارقِ بين نقلِ القُرآنِ، ونقلِ السُّننِ أدركْتَ أنَّ الأمرَ الشَّائعَ قدْ لا يُحفظُ فيه إلاَّ الحديثُ الواحدُ، لا لأجلِ أنَّهُ لم يحملُهُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ الرَّجلُ الواحدُ، وإنَّما لأجلِ أنَّهُ لم يُحدِّثْ به عنهُ إلاَّ الرَّجلُ الواحددُ، وفرْقٌ بين الصُّورتينِ لا يخفى، وهذه الأحاديثُ الآحادُ الَّتي لا تُحصى كثرةً جاءتْ في أمورٍ تعمُّ بها البلوى، وما أدَّى النَّاسُ ولا حدَّثُوا فيها إلاَّ بالحديثِ الواحدِ، وخُذْ لذلكَ مثالاً حديثَ:((الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) ، فهوَ سُنَّةُ آحادٍ، لم تصحَّ له روايةٌ إلاَّ من حديثِ عُمرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنهُ، مع أنَّه أصلٌ في جميعِ الأعمالِ وقاعِدَةٌ عظيمةٌ، ومنَ المظنُونِ أن يكونَ قدْ حدَّثَ به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غيرَ عُمَر، لكنْ لم يُؤدِّه عنهُ أحدٌ سواهُ.
ومن تأمَّل شرْطَ الحنفيَّةِ هذا في طريقَتِهِم وجَدَهُم خالفُوهُ ولمْ يلْتَزِمُوهُ، بل تعدَّوْهُ إلى الضَّعيفِ من أخبارِ الآحادِ في أمورٍ تعمُّ بها البلوَى على تفسيرِهِمْ.