وما أروع التقابل بين المعاني والقيم السامية في الصورة القرآنية الأولى، وبين التنفير والإنكار لنقائض هذه المعاني والقيم في الصورة الثانية، التي تصور تمزق الأمة وتقطع أوصالها في قوله تعالى:{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} ، وكذلك التقابل بين الإيقاع القرآني في موسيقى الصورة الأولى الهادئة الرقيقة المناسبة كانسياب الماء العذب البارد، وبينه في موسيقى الصورة الثانية العنيفة الشديدة الهادرة المدمرة بالتقطيع والتمزق، لأن الله تعالى ينصرف عن الأمة الممزقة، فيغيبون عن ساحة مشاهدته وحضرته، ولا يستحقون منه النظر ولا الخطاب لانصرافهم عن منهج القرآن وتفرقهم عن سبيله، فينصرف الله عنهم ولا يخاطبهم، لأنهم غائبون عنه بعيدون عن رحمته وحضرته، وهذا هو الإعجاز في الانصراف عن الخطاب إلى الغيبة.
وما أروع التصوير القرآني لتمزق الأمة وتقطعها إربًا إربًا، ليذهب كل فريق بجزء بعد أن كانوا كيانًا واحدًا وجسدًا قويًّا، وذلك في التعبير بصيغة "تقطعوا" لتدل من حيث معناها اللغوي على التمزُّق والضعف والذلة وعظيم البلاء، وللتنفير من الخلاف والدعوة إلى التضامن والوحدة، وتدل أيضًا من حيث المبنى والإيقاع بين أصوات حروفها على عنف الموسيقى القرآنية الصاخبة والمدمرة، مما يبث الخوف والرهبة من هذه الكارثة، وبحث على الترغيب في وحدة الأمة والاعتصام بكتاب الله تعالى، ثم يأتي التذييل في الصورة القرآنية الثالثة:{كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُون} ، للتهديد لهم باستحقاق العقاب الشديد، لأن الله تعالى لا يرضى لهم الضعف والهوان، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، لتكون كما أراد الله -عز وجل- خير أمة أخرجت للناس.