للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بلاغة التعبير عن الندمّ:

قال تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: ٤٦] ، فالإعجاز في التصوير القرآني لهذه الآية الكريمة مع بلاغة الإيجاز فيها، يأخذ بالألباب من وجوه كثيرة، قد يتضح بعضها لنا، ويغيب عنا ما لا يعلمه إلا الله وحده: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: ٨٥] .

فتأمَّل مجرد "المس" فقط لا الإصابة، ولا التمزيق، ولا التقطيع، ولا الحرق، ولا وقود النار، وغير ذلك مما يقطع الجسد ويحرقه ويذيبه في جهنم، وعلى الرغم من ضآلة المس، فقد ألجأهم إلى التألم الشديد حتى صرخوا قائلين: "يا ويلنا" مستغيثين بأن يعودوا إلى الدنيا، لينجوا من العذاب بالعودة إلى الإيمان، وقد حكموا على أنفسهم بالظلم، ومما يزيد من ضآلة المس، أنه نفحة أي شيء حقير جدًّا، وتافه ضعيف لا يؤبه له، لأنها جاءت على صيغة اسم المرة، أي نفحة واحدة، فتدل بمادتها وصيغها على القلة والحقارة، كما أن صيغة التنكير تدل على التقليل والحقارة، وتدل أيضًا على التهكم بالكفار؛ لأن النفحة في العادة والوضع اللغوي تستعمل في الطيب والخير، مثل نفح الطيب والمسك، ونفح الرياح الناعمة، والنسيم الطري المعطر، فاستعيرت هنا للعذاب على سبيل التهكم والازدراء بالظالمين، على نحو التهكم في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، فالتبشير يكون بالجنة والنعيم، لا بالعذاب الأليم.

والذي يؤكد أن النفحة ليست مسكًا أو رفهًا، وإنما جزء يسير من

<<  <   >  >>