{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}[يوسف: ٨٤] ، مثل هذه التجربة الإنسانية الصادقة في عاطفتها المحمومة، ومشاعرها البليغة، تحتاج إلى تصوير قرآني معجز، يخفف من غلوائها، ويحدّ من طغيانها حتى لا يتضاعف الضرر أكثر من ذلك، ولا يتأتى إلا باستخدام مقومات في التصوير لا تكشف هذا الأمر أكثر، ولا تفضح أسراره الفياضة، فيسوق إليها سحبًا من الغرابة تغطي خيوط المأساة، وتستدل عليها ستائر من الوحشة تهدئ من غلواء المصيبة، فيستخدم القرآن الكريم أغرب الألفاظ والأساليب، التي تصرف المتلقى عن المباشرة الصريحة إلى التأمل وطول النظر، وفي التحول تهدئة وانكسار، فاتخذ غرائب الألفاظ لينقل المتلقي من التلقائية الحادة والقاتلة إلى الروية والتفكير الطويل، وفي التهدئة والانتقال امتصاص للحزن، تخفيفًا لعنفه وضرره، فالقريب في التعبير المألوف أن تقول في مثل هذا الموقف: بالله لا تفتأ حتى تفنى أو لا تصير شيئًا يذكر، فتكون من الهالكين، وهذا تعبير مباشر وصريح، يتجاوز العمى إلى الموت، لذلك انصرف الأخوة عن الصراحة إلى الغرابة والوحشية، فجاء القسم بالتاء، والمألوف الواو والباء "والله -وبالله"، وحذف النفي الملازم للفعل "تفتأ"، والأصل "لا تفتأ" بمعنى لا تبرح، لزيادة الغرابة والوحشة والتحول، وأهمل لفظ الفناء والبلى المباشر في المعنى إلى التأمل في لفظ "حرضًا" الغريبة والبعيدة في معناها وموسيقاها الثقيلة المتئدة، ليزداد المعنى غموضًا في التصوير القرآني، التي تزاحمت فيه مقومات الغرابة والحذف حتى ينصرف يعقوب عن الحزن إلى التأمل، فينسى هذه المأساة حينًا، ويتحول عنها قليلًا، مما يتلاءم مع مقصود الأخوة الذين يريدون أن ينسى والدهم يوسف وأخاه، فيبتعد قلبه عنهما، والذي ضاق بهم،