لا يتراءى له ناراهما وبينهما مراتب تكاد تفوت الحصر متفاوتة، فمن الأسفل تبتدئ البلاغة وهو القدر الذي إذا نقص منه شيء التحق ذلك الكلام بما شبهناه به في صدر الكتاب من أصوات الحيوانات ثم تأخذ في التزايد متصاعدة على أن تبلغ حد الإعجاز وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه.
واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن يدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة، ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا، وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين، نعم للبلاغة وجوه ملتثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتجلي عليك. أما نفس وجه الإعجاز فلا. وأما الفصاحة فهي قسمان: راجع على المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد وراجع على اللفظ، وهو أن تكون الكلمة عربية أصلية وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور واستعمالهم لها أكثر لا مما أحدثها المولدون ولا مما أخطأت فيه العامة وأن تكون أجرى على قوانين اللغة وأن تكون سليمة عن التنافر، والمراد بتعقيد الكلام هو أن يعثر صاحبه فكرك في متصرفه ويشيك طريقك على المعنى ويوعر مذهبك نحوه حتى يقسم فكرك ويشعب ظنك على أن لا تدري من أين تتوصل وبأي طريق معناه يتحصل كقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
وكقول أبي تمام:
ثانيه في كبد السماء ولم يكن ... كائنين ثان إذا هما في الغار