فصارت الأقسام في التقسيمين ثلاثة: الأول كونهم خلقوا بلا خالق أصلًا، الثاني أنهم خَلقوا أنفسهم، الثالث أنهم خلقهم خالق غيرُ أنفسهم. فهذا التقسيم العقلي الصحيح جزء الدليل التصديقي، وجزءه الآخرُ هو سبر هذه الأقسام الثلاثة واختبارها، وتمييز الصحيح منها من الباطل. وبالسبر الصحيح يتبين أن القسمين الأولين -وهو أنهم خُلقوا بدون خالق أو أنهم خَلقوا أنفسهم- باطلان غاية البطلان كما لا يخفى، وأن القسم الثالث -وهو أنهم خلقهم خالق- صحيحٌ لا شك فيه، وهذا الخالق الذي خلقهم هو خالق السموات والأرض ومن فيهما -سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا-. فالقسم الصحيح من الأقسام حُذف في الآية؛ لدلالة المقام عليه، فدل التقسيم والسبر المذكوران على أن لهم خالقًا هو الذي خلقهم، وهو الذي يستحق عليهم أن يعبدوه وحده، فكونهم خلقهم خالق تصديق، وكان التقسيم جزء الدليل عليه، ومن المعلوم أن الحصر والتقسيم إن كانا قطعيين كان السبر والتقسيم دليلًا قطعيًّا، كالآية التي مثلنا بها، فدلالتها على أنه -تعالى- هو الخالق المستحق للعبادة وحده قطعية؛ لأن الحصر والإبطال [فيها](١) قطعيان.
واعلم أن الأصوليين إنما يستعملون هذا الدليل في إثبات العلة بحصر أوصاف المحل، وإبطال غير الصالح للتعليل، فيتعين الباقي الصالح للتعليل.
كقول الشافعي: علة تحريم الربا في البر إما الكيل وإما الطُعم وإما الاقتيات والادخار مثلًا، ثم يستدل على بطلان وصف الكيل ووصف الاقتيات والادخار بأن ملء الكف من البر لا يجوز فيه الربا، مع أنه غير
(١) في المطبوع: (فيهما)، والمثبت هو الصواب لأن الضمير يعود على الآية.