للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يتأخر عن علته، ومن هنا زعموا أن العالم قديم، قبحهم الله، ما أشد عماهم وطمْس بصائرهم.

والحق الذي لا شك فيه أن المؤثر في الحقيقة هو المؤثر بالاختيار (١)، وهو خالق السموات والأرض ومن فيهما وما بينهما، وهو المسبب ما شاء من المسبَّبات على ما شاء من الأسباب.

ومن أعظم البراهين القرآنية على ذلك أن القرآن دل على أن إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- جُعل هو والحطب في النار، فأحرقت الحطب حتى صار رمادًا من حرها، في نفس الوقت التي هي فيه برد وسلام على إبراهيم؛ لأن المؤثر الحق شاء تأثيرها في الحطب، ولم يشأ تأثيرها في إبراهيم، بل قال لها: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩)} [الأنبياء: ٦٩] وقد بينّا حكم الأسباب واستعمالها والتوكل على الله في سورة مريم وفي غيرها في كتابنا "أضواء البيان في


(١) مذهب أهل السنة والجماعة إثبات التأثير الحقيقي للأسباب، مع كونه من خلق الله، فالله عندهم هو خالق السبب والأثر، وهو موجد الشروط، ونافي الموانع، والفرق بينهم وبين الطبائعيين في هذا أن هؤلاء يثبتون لها التأثير استقلالا، وهذا عند أهل السنة شرك في الربوبية، أما إنكار تأثيرها مطلقا والقولُ بأن التأثير يحصل عندها لا بها فإنما هو قول الأشعرية ومن وافقهم، انظر منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية (٣/ ١٢ - ١٤)، ومجموع فتاواه (٨/ ٢٨٩ وما بعدها)، والمؤلف في قوله هنا (المؤثر في الحقيقة هو المؤثر بالاختيار) إنما قصد به التأثير استقلالا لا غير، فهو لا ينفي حقيقة تأثير الأسباب بلا استقلال عن قدرة الله ومشيئته، كما هو واضح من كلامه في هذه المسألة في كتابه "أضواء البيان" (٤/ ٢٧١)، وراجع هنا تصريحه بترتب المسبَّب على السبب ص ١٩٤، وانظر أيضًا ص ١٩٦.