للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمصيبة الكبرى التي يراها التاج السبكي، أن ترى من الفقهاء من يُشدّد النّكير على المسائل الفرعية، ويترك الإنكار على المسائل الأصلية القطعية، فلا تجدهم ينكرون على تارك الصلاة، ولا على كثير من المحرمات المجمع عليها ويضيف: ((فَلَعَمْرُ الله لا أحصي من رأيته يُشمّر عن ساعد الاجتهاد في الإنكار على شافعي يذبح ولا يسمي. . . وهو يرى من العوام ما لا يُحصي عدده إلا الله تعالى يتركون الصلاة التي جزاء من تركها عند الشافعي ومالك وأحمد ضرب العنق، ولا ينكرون عليه، بل لو دخل الواحد منهم بيته لرأى كثيراً من نسائه يتركن الصلاة، وهو ساكت عنهن، فيالله وللمسلمين! أهذا فقيه على الحقيقة! قبح الله مثل هذا الفقيه، ثم ما بالكم تنكرون مثل هذه الفروع، ولا تنكرون المكوس والمحرمات المجمع عليها، ولا تأخذكم الغيرة لله تعالى فيها! وإنّما تأخذكم الغيرة للشافعي، وأبي حنيفة، والمدارس المزخرفة)) (١).

وقد كان رحمه الله تعالى، ذا بعد نظر، وفكر ثاقب؛ فهو يريد أن يجتمع العلماء على كلمة واحدة، ولا يريد للأمّة أن تفترق فيما بينها وتذهب هيبتها، فقد كان يدعو العلماء إلى توحيد الكلمة ورصّ الصفوف ويرى أنّ افتراق العلماء هو سبب هلاك الأمّة فيقول: ((فيؤدي ذلك إلى افتراق كلمتكم وتَسلّط الجهال عليكم، وسقوط هيبتكم عند العامّة، وقول السفهاء في أعراضكم ما لا ينبغي، فتهلكون السفهاء بكلامهم فيكم؛ لأنّ لحومكم مسمومة على كل حال، لأنّكم علماء، وتهلكون أنفسكم بما ترتكبونه من العظائم)) (٢).

رحم الله التاج السبكي؛ فقد وضع يده على الجرح النازف في جسم أمّتنا اليوم، وحريّ بعلماء هذا الزمان - الذين مزقتهم الخلافات كل ممزق - أن يجعلوا من توجيهات التاج السبكي، دستوراً ونبراساً يهتدون به؛ لعلهم يعيدون للأمّة قوتها ومجدها، فقد آن لعلمائنا أن يقفوا صفاً واحداً في مواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بالأمّة، ولا تجد منهم من يحرك ساكناً، ألا فهبّوا أيها العلماء، وكونوا كما أرادكم الله تعالى ورثة للأنبياء.

٥ - اعتداده بنفسه وبمؤلفاته: كان التاج السبكي - رحمه الله تعالى - كثير الاعتزاز بنفسه، فهو يقول عن نفسه: ((وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق لا يقدر أحد يرد عليّ هذه الكلمة)) فانظر إلى مدى هذا الاعتزاز وهذه الثقة بالنفس والتي جعلته يتفوه بمثل هذه الكلمة، في زمن كان العلماء يقفون فيه سداً منيعاً أمام من يدعى الاجتهاد ولم يكن قد تأهل له بعد.


(١) المصدر السابق ص ٧٦
(٢) التاج السبكي، معيد النعم ص ٧٧

<<  <   >  >>