للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا يرى التاج السبكي حرجاً بالتحدث عن مؤلفاته ومزاياها، فهو لا يترك فرصة إلا ويشيد بمؤلفاته ويرفع منها، بعبارات تفوح منها رائحة العزّة والأنَفَة فهو يقول عن كتابه الطبقات: ((ومن نظر كتابي هذا علم كيف كان البدر يغيب وأنا شاهد، وتيقن أنّه وظيفة عمر رجل ناقد؛ فلقد اشتمل على بحر زاخر من غرائب المسائل، وقدر وافر من عجائب الأقوال والأوجه والدلائل وغيث هامع من العلم تتقاصر عنه الأنوا (١)، وغدير جامع تلقى عنده الدلا (٢))) (٣) ويضيف: ((إنّ هذا المجموع شمس عوارف المعارف، وقمر لطائف الظرائف، ونجم سماء العلم، والناس تِلقاءَ حرمه بين عاكف وطائف، من شاهده قال: هكذا هكذا، وإلا فلا لا، ومن أنفق من خزانة علمه لم يخش من ذي العرش إقلالاً، ومن تأمله منصفاَ جبن عن معارضته وأنشد:

. .أهابك إجلالا. . .)) (٤)

هكذا كان هو التاج، وحُقَّ له أن يعتز بنفسه.

ولا ينبغي لمنصف أن يرى في ذلك نقيصة منه، ذلك أنّ التاج بنفسه يؤكد أنّ إشادته بمصنفاته ليس للسمعة والفخر، وإنّما من باب ''وأما بنعمة ربك فحدث'' ويهدف من ذلك إلى تشويق القارئ وحضه على مطالعته.

ومع ذلك كان يرجع ويتواضع، فهو فيه عزة وتواضع معاً، فبعد أن يمدح ويستطرد في المدح يقول: ((وأنا مع وصفي هذا الكتاب، ما أبرئ كتابي ولا نفسي من شك ولا ريب، ولا أبيعه بشرط البراءة من كل عيب، ولا أدعي فيه كمال الاستقامّة، ولا أقول: بأنّ الطبقات جمع سلامّة، بل إذا دار في خلدي ذكر هذه الطبقات اعترفت بالقصور، وسألت الله الصفح الجميل عما جرى به القلم، فكم جرى بهذه السطور، وقلم اللوح المحفوظ والكتاب المسطور، ورجوت مسامحة ناظريه، فهم أهلوها، وأملت جميلهم فهم أحسن الناس وجوهاً وأنضرهموها)) (٥).

٦ - صبره وتحمله الأذى: لقد كان للتاج السبكي، الكثير من الحساد والمناوئين الذين يَحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وكان هؤلاء الحسّاد يَحيكون المؤامرات ضدّه للنيل من عرضه، وقد نجحوا في ذلك، فاضطهد التاج وعزل عن القضاء واتهم بالكفر وسجن (٦).

وقد تجلّى صبر التاج السبكي في هذه المحنة في أبهى صورة فقد ظل رحمه الله تعالى، قوياً ثابتاً صابراً محتسباً، فهو لم يَجزَع ولم يتألّم، ولم تَفُتّ هذه المحنة من عزمه، بل ظل على ثقة مطلقة بربّه وأنّ الله سبحانه لن يتركه، ولا بد أنّ فرجه قريب، وظل كذلك حتى فرج الله تعالى عنه، وكشف عنه الغمة، وعاد التاج إلى منصبه معززاً مكرماً.


(١) أي جمع نوء وهو النجم المنازل في الغرب وكانت العرب تضيف إليه المطر والرياح، الجوهري الصحاح (١/ ١١٩) مادة نوء
(٢) أي جمع دلو وهو ما يستقى به الماء المرجع السابق (٦/ ٢٨٦) مادة دلو
(٣) التاج السبكي، طبقات الشافعية (١/ ٢٠٩)
(٤) المصدر السابق (١/ ٢١٤)
(٥) التاج السبكي، طبقات الشافعية (١/ ٢١٥)
(٦) انظر ما قلناه عن محنة التاج السبكي صفحة ٤٤ من هذه الرسالة

<<  <   >  >>