للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[موقف التاج السبكي من الوضع السياسي]

لم يكن التاج السبكي رجلاً منعزلاً عن أمّته، بل كان - رحمه الله تعالى - قريباً جداً منها، يلتمس همومها ويتأثر بما تتأثر به الأمّة، ولم يكن - رحمه الله تعالى - تأخذه في الله لومة لائم؛ لذا فقد وجدته كثير الانتقاد لأحوال الدولة السياسية العامّة، وكانت له مواقف كثيرة في هذا المجال لا يَقِفها إلا أمثاله من العلماء المخلصين الذين لا يداهنون في دين الله أحداً، ومن هنا جاء انتقاد التاج السبكي للسياسة التي اتبعها المماليك في ذلك العصر، واعتبر أنّ سياستهم لا تنفع أحداً، بل مَضرّتها أكثر من نَفْعِها، وأنّه لا بد من رفع الأمور إلى الشرع، فهو يقول في ذلك مُبيّنا ما على الحاجب من أمور: ((عليه رفع الأمور إلى الشرع، وأن يعتقد أنّ السياسة لا تنفع شيئا (١)، بل تَضرّ البلاد والرعايا، وتُوجبُ الهَرَج (٢) والمَرَج (٣)، ومصلحةُ الخلق فيما شرعه الخالق الذي هو أعلم بمصالحهم ومفاسدهم، وشريعةُ نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم متكفّلةٌ بجميع مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم، ولا يأتي الفسادُ إلا من الخروج عنها، ومن لَزِمَها صَلُحَتْ أيامه واطمأنت)).

ثم بيّن أنّه ما من سلطان ولا حاجب ولا صاحبُ شرطة يُعْمِلُ حُكمَ الله تعالى، ويُلقِي الأمور إلى الشرع إلا اطمأنت نفسه ونجا من المصائب والمحن، وكانت أيامه أصلح وأقل مفاسد. . . وقال: ... ((وكذلك اعتبرت فلم أرَ ولم أجد من يظن أنّه يُصْلح الدنيا بعقله، ويُدَبّر البلاد برأيه وسياسته، ... ويَتعدّى حدود الله تعالى وزواجره، إلا وكانت عاقبتُهُ وخيمةً وأيامُه منغصةً منكدة، وعيشُه قلقاً، ... وتُفتح عليه أبواب الشرور، ويتسع الخرق على الراقع، فلا يَسدُّ ثُلمة (٤) إلا وتُفتَح ثُلمات، ولا تُرفَع فتنة إلا وينشأ بعدها فتن كثيرة)) (٥).


(١) قلت لم يقصد التاج السبكي بذاك مطلق السياسة بل قصده السياسة الظالمة القائمة على أساس العقل بعيدا عن الشرع، والتي تعتبر العقل أساس المصالح والمفاسد وإن خالفها الشرع في ذلك، وأما السياسة الشرعية القائمة على أن الحاكمية لله تعالى وأن لا مشرع إلا الله وحده فلا يقصدها التاج السبكي، كيف والنظام السياسي في الإسلام من أهم الأنظمة التي تقوم عليها الدولة في الإسلام
(٢) هرج الناس إذا وقعوا في فتنة واختلاط وقتل، طاهر الزاوي، ترتيب القاموس المحيط (٤/ ٤٤٨) مادة هرج
(٣) أي الفساد والقلق والاختلاط، المصدر السابق (٤/ ١٩٨) مادة مرج
(٤) أي فرجة المكسور والمهدوم، طاهر الزاوي، ترتيب القاموس المحيط (١/ ٣٩٤) مادة ثلم
(٥) التاج السبكي، معيد النعم ص ٤١

<<  <   >  >>