للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الكافية لتدريس ألف باء ...

وعليه فالنية الحضرية، بعيدة بعداً كلياً عن واقع الاستعمار، بل ما هي في كلامه إلا مجرد مبرر يبرر به موقفه، وحتى على احتمال أن هذه النية موجودة فعلا في واقع الاستعمار أو في رسالته كما يقولون، وهذا طبعاً أقصى ما يمكن تسليمه لمدام فيس- على سبيل المناقشة- فيبقى أن المشكلة التي وضعتها للبحث في جلسة أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية: ليست موضوعة على أساس، لأنها تتضمن مسلَّمة لا تقنع أحداً ألا وهي تلك التي تجعل من فعلَي ((استعمر)) و ((حضَّر)) مترادفين.

والواقع أن الحضارة ليست شيئاً يأتي به سائح في حقيبته (مع أن صورة السائح لا تورط مفهوم الحضارة مثلما تورطه صورة المستعمر) لبلد متخلف كما يأتي بائع الملبوسات ... البالية بل إن ابن المستعمرات هو الذي يذهب إلى الحضارة، إلى مصادرها البعيدة، وقبل كل شيء إلى مصادرها الأقرب من أصالته. وليست الحضارة في نية المستعمر ولو صحت هذه النية بل هي نتيجة الجهد الذي يبذله كل يوم الشعب الذي يريد التحضير، وفي إِرادة هذا الشعب إزاء الحضارة أي عندما يضع في كل تفصيل من حياته مضمونه الأخلاقي والجمالي والعملي حتى يكون هذا التفصيل كأنه خطوة نحو التقدم.

وفي هذا المضمون مع ما تضعه فيه عبقرية ابن المستعمرات هندوكياً كان أو بوذياً أو مسلماً- نجد ما تضعه فيه أيضاً العبقرية الغربية. لأن الحضارة الغربية ستبقى مثل ما سبقها من الحضارات مرحلة في تاريخ الإِنسانية وإذا كانت هذه المرحلة مرحلة فاصلة بمقتضى ارتباطها بعصر الذرة، فإن الإنسانية سوف لا تدين بالتالي بحضارتها إلى ((نية)) الغرب أو إلى عبقريته بل تدين إلى العناية الإلهية التي تضع مصيرها تحت قوانين سماوية تسير تاريخها.

***

<<  <   >  >>