إلى الأرض، وإنما غاير في التعبير بالنسبة لكلّ منهما، تنويعا للفظ. وهو معنى صحيح تدل عليه الآية. والمتأمل من علماء العربية يدرك من وراء ذلك أن الآية تدلّ على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة فلذلك سمّاها سراجا، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه؛ وهو أيضا معنى صحيح تدل عليه الآية دلالة لغوية واضحة. أما الباحث المتخصص في شئون الفلك فيفهم من الآية إثبات أن القمر جرم مظلم وإنما يضيء بما ينعكس عليه من ضياء الشمس التي شبّهها بالسراج بالنسبة له؛ وهو أيضا معنى صحيح تدل الآية عليه بلغتها وصياغتها، فأنت تقول: غرفة منيرة إذا انعكس عليها الضوء من سراج في وسطها، ولا تقول قبس منير، إذ ينبعث النور من حقيقته وداخله، بل تقول قبس مضيء.
فالآية تتضمن هذه الدلالات الثلاث جملة واحدة، ولكنها- بأسلوبها العجيب- لا تخاطب الناس إلا بما يدركونه منها، كلّا حسب استعداده وطاقته الفكرية، وبذلك تكون الآية خطابا مفيدا لأضراب الناس كلهم.
ومن هذا القبيل أيضا قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، يقرأ هذه الآية العربي الذي لا يعلم عن الأرض وهيئتها إلا الشكل الذي يراه وهو الامتداد والانبساط، فيفهم من قوله «دحاها» معنى الانبساط والامتداد، وهو فهم صحيح تدل عليه الكلمة بمعناها اللغوي القريب. ثم يقرؤها عالم الفلك أو المثقف العادي في هذا العصر، فيفهم من قوله: دَحاها معنى الاستدارة والتكوير، وهو أيضا فهم صحيح للكلمة، إذ هي تحمل في آن واحد كلّا من معنى الاستدارة والانبساط، وهو أدق ما توصف به الأرض. ولقد استعملت هذه الكلمة بكلا معنييها في هذه الأبيات لابن الرومي:
إن أنس لم أنس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر (١)
(١) تشترك مادة داح ودحا في الدلالة على الاتساع والعظم والانبساط والاستدارة قال في شرح