* تضعنا الآيتان الأوليان أمام أول مشهد من الأحداث العظيمة في هذه القصة، وذلك بعد أن مرّ دهر طويل على نوح وهو يدعو قومه إلى الله ويناشدهم الانصياع إلى منطق العقل ووحي الضمير، دون جدوى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ فقد أخبر الله إذا أنه لا مطمع في إسلام أحد من قومه بعد اليوم، فلينفض يده من الاهتمام بشأنهم، ولا يحزن عليهم بما يظلمون عاكفين عليه من غواية وضلال.
وليس هذا فقط، بل إن عليه أن ينصرف عن دعوتهم بعد اليوم، وعليه أن يشرع في صنع سفينة! ...
ولكن كيف يصنع السفينة وهو لم يمارس هذا العمل من قبل، وكيف يتأتى أن يفعل ذلك باطمئنان وفي سلام، وإن قومه الذين لم ينفكوا يؤذونه سيفسدون عليه عمله؟!.
والجواب تراه في قوله عزّ وجلّ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا أي اصنعه ولا تبال بسخرية قومك، فإنما ستصنعه متلبسا برعايتنا وحفظنا؛ ولا تؤرق الفكر في مشكلة جهلك بصنعه، فإنما ستصنعه من وراء وحينا وإلهامنا.
ويختم الوحي الإلهي خطابه لنوح بقوله عزّ وجلّ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا تكلمني في شأنهم باسترحام ودعاء بعد اليوم.
فقد قضي الأمر بإغراقهم وسينفذ قضاء الله فيهم وشيكا. ولبيان ضرورة نفاذ هذا القضاء عبّر بصيغة الماضي: إنهم مغرقون.
* وينطوي هذا المشهد، ليظهر من ورائه مشهد آخر، تبصر فيه نوحا عليه السلام وهو منهمك في صنع الفلك وإعدادها. وانظر كيف يصوّر البيان القرآني هذه الصورة في قوله عزّ وجلّ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ... هكذا، بصيغة المضارع الحاضر، إحياء للصورة في الذهن وتحضيرا للمشهد أمام المخيلة.
ثم نبصر في هذا المشهد قوم نوح وهم يمرون، جماعة إثر أخرى،