يضجّون سخرية به وبعمله الجديد هذا. ولك أن تتصور ما شئت من مظاهر السخرية وأقاويلها، فالقرآن ترك تصوّر ذلك لخيالك، وتأمل في ذلك قوله عزّ وجلّ: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ جملة حالية تصور لك الأمر مستمرا متكررا؛ ذلك أنهم رأوه في عمله هذا مادة جديدة هائلة للسخرية، خصوصا وإنه يقوم بهذا العمل في مكان لا حاجة ولا محل فيه للسفن إذ كانت القصة ما بين بلاد الشام والعراق؛ فهم كلما مرّوا به وقفوا عنده يسخرون منه. ولكنه لم يكن يزيد في جوابه لهم على أن يقول- وهو منكبّ على عمله-.
إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون، أي سوف تجدون عاقبة سخريتكم هذه بلاء يتلبس بكم.
ثم يقول: مؤكدا المعنى المقصود بقوله، فإنّا نسخر منكم: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي فسوف ينكشف لكم الحجاب عن الفريق الذي يفجؤه عذاب يخزيه في الدنيا ثم ينزل به عذاب لا ينفك عنه في الآخرة. ولك أن تعتبر «من» في الجملة موصولة في محل نصب مفعولا لتعلمون، ولك أن تعتبرها استفهاما سدّت مع خبرها الذي بعدها مسدّ مفعول تعلمون.
* ويطوى هذا المشهد أيضا، وتمرّ أحداث لا تتكلم عنها الآيات ولا تعرّج عليها، اعتمادا على سير المخيلة والفكر؛ فقد انتهى صنع السفينة وفرغ نوح منها ولبث ينتظر الميعاد الذي لن يتخلف لحظة واحدة عن أجله المحتوم، حيث يظهر المشهد الرابع مع قوله تعالى:
ف حَتَّى هذه، تشير كما ترى إلى الأحداث المطوية بين المشهدين، أي وظل نوح عاكفا على صنع السفينة ومرّ زمان على ذلك، حتى جاء الميقات المحدد في علم الله، وفار التنور.
والتنور معروف، والماء لم ينبع من التنور وحده بل فاض من أنحاء الأرض كلها، ولكنه إنما اكتفى بالنص عليه وحده، إشعارا بالغاية ودلالة على