وهكذا دواليك .. فقد كانت كل قبيلة تختلف في النطق عن الأخرى بوجوه من الاختلافات كثيرة، حتى باعد ذلك بين ألسنة العرب وأوشك أن يحوّل اللغة الواحدة إلى لغات عدّة متجافية لا يتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها.
ولقد بلغ من تخالف هذه اللهجات وتباعدها، أن كثيرا من وفود هذه القبائل التي أخذت تفد في صدر الإسلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يلقون كلمات وخطبا لا يكاد يفهمها القرشيون من أصحابه عليه الصلاة والسلام ولقد قال عليّ رضي الله عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد سمعه يخاطب بني نهد:
يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لم نفهم أكثره! .. فقال عليه الصلاة والسلام: أدّبني ربي فأحسن تأديبي (١).
فلما نزل القرآن، وتسامعت به العرب، وائتلفت عليه قلوبهم، أخذت هذه اللهجات بالتقارب، وبدأ مظاهر ما بينها من خلاف تضمحل وتذوب، حتى تلاقت تلك اللهجات كلها في لهجة عربية واحدة، هي اللهجة القرشية التي نزل بها القرآن وأخذت ألسنة العرب على اختلافهم وتباعد قبائلهم تنطبع بطابع هذه اللغة القرآنية الجديدة. فكان ذلك سرّ هذا الشريان السحري العجيب الذي امتدّ في أجلها، فاستصلبت بعد ميعة، وقويت بعد تفكك، واتحدت بعد تناثر، ثم مرّت على مصرع أعظم لغة عالمية شاملة هي «اللاتينية» بينما تغلي هي حيوية وقوة وإشراقا. فكيف تمكن مع ذلك دراسة شيء من أدب هذه اللغة دون دراسة روحها التي تعيش بها وشريانها الذي يمتدّ فيها وينسأ من أجلها؟
[السبب الثالث:]
أن البلاغة والبيان وجمال الكلمة والتعبير- كل ذلك كان
(١) هذا الحديث مروي بطرق مختلفة كلها تدور على السدي عن ابن عمارة الجواني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصحّحه أبو الفضل بن ناصر، وقال عنه ابن حجر غريب، وقال عنه السخاوي سنده ضعيف ولكن معناه صحيح. وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي: ٢٩ وفيض القدير على الجامع الصغير: ١/ ٢٣٥.