للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنها ذرّات جسوم الناس بعد ضياعها في بطن الأرض أو في جوف البحار.

الصفة الثانية: قدرته الباهرة وسطوته القاهرة، اللتان بهما دخل الكون كله تحت سلطانه، ففيم العجب من أن يعاد الناس إلى خلق جديد بعد موتهم، وقد أخبر بذلك من خلقهم أول مرة، ومن يعلم أين تذهب كل ذرّة من جسومهم ومن كان الكون كله داخلا تحت نطاق قدرته وسلطانه.

[شرح الآيات:]

* تبدأ الآية الأولى ببيان أن الله عزّ وجلّ لا تخفى عليه خافية، وأنه يرى ويعلم كل غيب مجهول وكل ضائع مستور. فيجسّد حقائق الغيب في أبرز نموذج له لا يزال الإنسان يرى فيه أول مثال للمجهول الذي لا ولن يطوله علم الإنسان واطّلاعه، وهو تخلق المولود في رحم الأنثى بدءا من أول مرحلة فيه إلى آخرها؛ ثم يثبت البيان القرآني أن الله وحده المطّلع على هذا الغيب بأمره وحقيقته. وذلك كناية عن أن الله عزّ وجلّ مطّلع على كل غيب وخافية. إذ كان غيب ما في الأرحام أبرز نموذج لهما.

ولك في تقرير هذا المعنى أن تعتبر «ما» المتكررة في الآية موصولة ومصدرية؛ ولا ريب أن المصدرية أبلغ في الدلالة. والمهم أن تتأمل الشمول الذي يتجلى في قوله: كُلُّ أُنْثى: شمول بواسطة الأداة، وشمول في تنكير الأنثى، ثم أن تتأمل الصورة التي ترسمها في الذهن جملة وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. والغيض هو النقصان، يأتي فعله لازما ومتعديا. تقول:

غاض ماء البئر وغضت من مائه، فالله يعلم كل ما ينقصه الرحم أو يزيده في جثة المخلوق أو في مدة حمله له. وهو معنى واسع دلّت عليه الآية كما ترى بجملة صغيرة ذات دلالة تصويرية معينة.

ولكن هل الأمر في هذا بالنسبة لله عزّ وجلّ مجرد علم واطّلاع؟ يجيب آخر الآية على هذا السؤال الذي يثيره أولها بقوله عزّ وجلّ: وكل شيء عنده بمقدار. فليس ما قد يتخلق في الرحم من شتى المخلوقات، وليس ما قد يعتريه من غيض أو فيض في الجثة أو الزمان- ليس شيء من ذلك مظهرا لمصادفة أو اضطراب أو تحوّل ذاتي كما يتفق له؛ بل كل ذلك إنما يتم وفق نظام شامل دقيق

<<  <   >  >>