السبب الثاني: أن يكون هذا الأمر المبهم من الغيوب التي استأثر الله تعالى بعلم أزمنتها وآجالها. وأنت تعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يخفي عن عباده- لمصلحة عظيمة باهرة- كثيرا من الحقائق المتعلقة بالغيب الذي لم يقع بعد. وأهمها أجل الإنسان الذي تنتهي عنده حياته وأجل الدنيا الذي تقوم عنده الساعة، وما سيجنيه من ربح أو خسران وسعادة أو شقاء.
فكل الآيات التي تتعلق بمثل هذه الأمور، يظل فيها هذا الجانب مبهما، لأن الغرض الديني قد تعلق ببقائه كذلك، ولأن حقيقة العبودية لله عزّ وجلّ تقتضي ذلك. فمن هذا القبيل قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ.
وهكذا، فالحقيقة الدينية في مجموعها قائمة على هذا النوع من الإبهام:
إبهام الأمور الغيبية من حيث عدم كشف أزمنتها وتعيين كيفيتها وآجالها. وذلك ليتلبس الإنسان بحقيقة «الإيمان بالغيب» الذي تعبده الله عزّ وجلّ به.
السبب الثالث: كون الأمر المتحدّث عنه لم يقع بعد. ومن شأن الخبر المتحدّث عنه مما لم يقع بعد، ولم يقع له نظير أو مثيل فيما مضى، أن يظل جانب كبير فيه مبهما، لا يكشفه إلا الواقع والحقيقة. وقد أخبرنا الله عزّ وجلّ عن أمور غريبة ستقع في المستقبل، وهي مما لم يقع له نظير فيما مضى، كالإخبار عن دابة الأرض ويأجوج ومأجوج في الآيات السابق ذكرها، فمما لا ريب فيه أن الصورة الجليّة لمثل هذه الأمور في الذهن لا تتوفر بمجرد الوصف والإخبار، وإنما تأتي لدى المشاهدة والعيان. فالإيهام في هذه الحالة أمر طبيعي لا إشكال فيه، اقتضاه عدم وقوع المخبر عنه بعد.
[المتشابه: المقصود به، حكمه]
وإنما نقصد بالمتشابه تلك الجمل التي تنازعها أكثر من معنى واحد، إذ كان اللفظ أو التركيب صالحا للدلالة على كلّ منها دون أن يكون صالحا للدلالة عليها كلها بآن واحد. فيحار المفسّر في المعنى المراد منها، لأن كلها شبيه بها