في الوقت الذي يعتبر فيه القرآن معجزة اللغة العربية وبيانها، وكتابا في التشريع والقانون، ومعلّما للفضيلة والأخلاق- فإنه يحمل إلى الناس أسس حضارة إنسانية شاملة، وذلك عن طريق المفهوم الذي يقدمه عن كلّ من الكون والإنسان والحياة ووجه التفاعل والتناسق بينها.
ولن يتسع المجال في هذا المقام لشرح التقرير الذي يضعه القرآن عن كلّ من هذه العناصر الثلاثة للحضارة في كل زمان ومكان، فإن من شأن ذلك أن يبعدنا عن الغرض الذي نحن بصدده؛ ولكنا نتناول من هذا البحث القدر الذي يفي بحاجتنا للتعرّف على هذا الكتاب العظيم، ويكشف لنا أهم خصائصه ومحتوياته.
[نظرة القرآن إلى الكون:]
القرآن يبصّر الإنسان بالكون الذي حوله على أنه جملة من المظاهر المخلوقة أبدعها الله عزّ وجلّ في انتظام وتناسق لغرضين اثنين:
الأول: أن يتأمل الإنسان فيه ويتنبه إلى مدى دقته وتناسق نواحيه وأجزائه، ليتوصل من ذلك إلى الإيمان بالخالق جلّ جلاله، ثم إلى إدراك ألوهيته وربوبيته المطلقة، ثم إلى إدراك أنه عبد لهذا الإله العظيم. وهو يقول في بيان هذا الأمر الأول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ