إنها معجزة الإخبار اللغوي، يقرره البيان الإلهي، صادرا عن الخالق ذاته، صاحب هذه النواميس ومبدعها، متحديا قدرات التطوير ووسائل البحث والتغيير. وتلك هي الدنيا وأجيالها، وطموح العلم والبحث فيها، كل ذلك خاضع خضوعه المطلق لهذه القوانين والنواميس.
ولعلّ هذه النماذج كافية لبيان ظاهرة الإعجاز الغيبي في القرآن. ولعلك تلاحظ أن ما يسمى عند بعضهم بالإعجاز العلمي يندرج تحت الإعجاز الغيبي، لأن الآيات التي تتضمن حقائق علمية صدقت عليها موازين العلوم والاكتشافات الحديثة، تتضمن حقائق غيبية في الوقت ذاته.
[ثالثا: الإعجاز بالتشريع:]
تحدّث كثير من الكاتبين عن الإعجاز التشريعي في القرآن، بطريقة لا أظن أنها تكشف حقيقة عن جانب جديد من الإعجاز القرآني، ينبع من أحكامه التشريعية. وقصارى ما ينتهي إليه ذهن القارئ أو المتتبع لهذه الطريقة، إن في القرآن تشريعا أصيلا وأحكاما مهمة وضرورية لمصالح الناس وإن علماء الشرائع والقانون لا غنى لهم، على مرّ العصور، عن الإفادة منها والرجوع إليها. أما أنا تشكل مظهرا من مظاهر الإعجاز في القرآن، فذلك شيء آخر قد يخفى على من يدرس الإعجاز التشريعي في القرآن بتلك الطريقة.
على أن الإعجاز التشريعي في القرآن، حقيقة بارزة لا تقبل ريبا ولا يكتنفها غموض، ولكن الأمر يحتاج إلى فهم حيثية الإعجاز التشريعي فيه، وهو ما فات التنبّه له، أو التنبيه إليه، لدى كثير من الباحثين.
ولا شك أن التنبّه إلى هذه الحيثية التي هي مكمن الإعجاز التشريعي في القرآن يحتاج إلى مقدمة، نوجزها فيما يلي:
من المعلوم فيما أجمع عليه علماء القانون والاجتماع، أن آخر ما يتوج به تقدم أيّ جماعة أو أمة في نهضتها المدنية والحضارية، هو تكامل البنية القانونية والتشريعية في حياتها. أي إن ظهور صياغة قانونية متكاملة في الأمة يعدّ الثمرة العليا لتقدمها الحضاري.