( ... لو لم يكن القرآن معجزا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع، لكان مهما حطّ من رتبة البلاغة فيه، ووضع من مقدار الفصاحة في نظمه، كان أبلغ في الأعجوبة إذا صرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا عن معارضته وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب. على أنهم لو كانوا صرفوا على ما ادّعاه- أي القائل بهذا التعريف- لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عمّا كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف، لأنه لم يتحدّوا إليه، ولم تلزمهم حجته. فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله، علم أن ما ادّعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان).
ثم يقول بعد ذلك:
(ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة، أنه لو كانت المعارضة ممكنة- وإنما منع منها الصرفة- لم يكن الكلام معجزا، وإنما يكون المنع هو المعجز، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه، وليس هذا بأعجب مما لو قيل:
إن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه بعد) (١).
أقول: وإن أيسر ما يوضح فساد تفسير إعجاز القرآن بالصرفة، أن الواقع قد خالف ذلك، فلم يصرف الناس في الحقيقة عن الإقبال إلى تقليده ومجاراته، بل قام في التاريخ- كما ستعلم- من حاول أن يعارض، وعارض وأتى بكلام زعم أنه قد حاكى به كلام الله عزّ وجلّ، ولكنه جاء مرذولا سمجا لا قيمة له. وأيضا ففيم سجد العرب من مشركين ومسلمين إذا لبلاغته حتى زعم بعضهم أنه السحر، وفيم كان المشركون يتواصون بعدم الذهاب إلى الكعبة في جنح الليل لسماع القرآن من محمد عليه الصلاة والسلام حتى لا يفتن بذلك جنح الليل لسماع القرآن من محمد عليه الصلاة والسلام حتى لا يفتن بذلك الدهماء عن دين أجدادهم، ثم ما هو إلا أن يتوارد هؤلاء المتواصون مع الليل، يختبئون خلف جدران الكعبة ليترنموا بسماع آيات القرآن؟ ... لو كان القرآن في