للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فُقَرَاء، لَكِنْ ظُرَفَاء

===========

إِنَّ مَنْ كَثُرَ مَالُه؛ كَثُرَتْ همُومُه ٠٠ كَمْ مِن غَنيٍّ عِنْدَهُ الأَمْوَالُ أَكْوَام، وَعَيْنُهُ لاَ تَنَام ٠٠!!

وَالسَّعَادَةُ الحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ في المَال، إِنمَا هِيَ في رَاحَةِ البَال، وَاسْمَعُواْ مَعِي ـ يَا أَهْلَ العُقُول ـ لهَذَا الشَّاعِرِ مَاذَا يَقُول:

إِنيِّ نَظَرْتُ إِلى الحَمَائِمِ في الرُّبَى * فَعَجِبْتُ مِن حَالِ الأَنَامِ وَحَالِهَا

فَغَبطْتُهَا في أَمْنِهَا وَسَلاَمِهَا * وَوَدِدْتُ لَوْ أُعْطِيتُ رَاحَةَ بَالِهَا

وَجَعَلْتُ مَذْهَبَهَا لِنَفْسِيَ مَذْهَبَاً * وَنَسَجْتُ أَخْلاَقِي عَلَى مِنوَالِهَا

وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَه اللهُ أَنَّهُ قَال: " اخْتَارَ الفُقَرَاء؛ ثَلاَثَةَ أَشْيَاء، وَاخْتَارَ الأَغْنِيَاء؛ ثَلاَثَة أَشْيَاء، اخْتَارَ الفُقَرَاء: رَاحَةَ البَدَن، وَفَرَاغَ القَلْب، وَخِفَّةَ الحِسَاب، وَاخْتَارَ الأَغْنِيَاء: تَعَبَ البَدَن، وَشُغْلَ القَلْب، وَشِدَّةَ الحِسَاب " ٠

الإِمَامُ الغَزَاليُّ في " الإِحْيَاءِ " بَابِ فَضِيلَةِ الفَقرِ عَلَى الغِني: (١٥٦١) ٠

فَرَاحَة البَال؛ ثَرْوَةٌ لاَ تُقَدَّرُ بِمَال، أَبْصَرَهَا ذَلِكَ الشَّاعِرُ فَقَال:

وَطَائِرٌ صَغِيرْ * يجْلِسُ فَوْقَ العُشّ

كَأَنَّهُ أَمِيرْ * يجْلِسُ فَوْقَ العَرْش

لاَ أَحَدَ يَقَعُ مِنْ فَوْقِ الحَصِيرَة

وَمَا أَظْرَفَ قَوْلِ هَذَا الأَعْرَابيّ:

خَرَجْتُ مِنَ المَنَازِلِ وَالقِبَابِ * فَلَمْ يَصْعُبْ عَلَي أَحَدٍ حِجَابِي

وَمَا حَاسَبْتُ يَوْمَاً قَهْرَمَانَاً * محَاسَبَةً فَغَالَطَ في حِسَابِي

وَلاَ خِفْتُ الذِّئَابَ عَلَى نِعَاجِي * وَلاَ خِفْتُ اللُّصُوصَ عَلَى دوابِّي

فَمَنزِليَ الفَضَاءوَسَقْفُ بَيْتي * سَمَاءُ اللهِ أَوْ قِطَعُ السَّحَابِ

فَأَنْتَ إِذَا أَرَدْتَ دَخَلْتَ بَيْتي * وَأَنْتَ إِذَا أَرَدْتَ قَرَعْتَ بَابِي

فَهَذَا هُوَ حَالُ الفَقِير ٠٠ يَبِيتُ مِلْءَ جُفُونِهِ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يخَافُ عَلَيْه ٠٠!!

وَصَدَقَ مَنْ قَالَ في الأَمْثَال: " لاَ أَحَدَ يَقَعُ مِنْ فَوْقِ الحَصِيرَة " ٠٠ أَيْ مَا جَلَبَ المَضَرَّة؛ إِلاَّ النَّوْمُ عَلَى الأَسِرَّة: وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّرَفِ وَالرَّفَاهِيَة، وَالفَخْفَخَةِ المُغَالِيَة ٠٠!!

وَقَالَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ؛ في بَائِسٍ مِنَ البُؤَسَاء:

هَذَا الَّذِي عَهِدْنَاهُ * مِنْ يَوْمِهِ صِفْرَ اليَدِ

كُلُّ مَا يَمْلِكُ صِفْرٌ * عَلَى شِمَالِ العَدَدِ

تَرَاهُ دَوْمَاً غَارِقَاً * في دَيْنِهِ لِلأَبَدِ

يُنْفِقُ كُلَّ مَالِهِ * وَلاَ يُبَالي بِالغَدِ

وَبِرَغْمِ إِمْلاَقِهِ * قَدْ حَامَ حَوْلَ الفَرْقَدِ

وَبَاتَ أَعْرَابِيٌّ هُوَ وَكَلبُهُ جَائِعَيْن، حَتى عَوَى كَلبُهُ طِوَالَ اللَّيْلِ مِنْ شِدَّةِ الجُوع، وَمَعَ ذَلِكَ رَأَى في نَفْسِهِ أَمِيرَاً لِلمُؤْمِنِينَ فَأَنْشَأَ يَقُول:

تَشَكَّى إِليَّ الكَلبُ شِدَّةَ مَا بِهِ * وَبِي مِثْلُ مَا بِالكَلْبِ أَوْ بيَ أَكْثَرُ

كَأَني أَمِيرُ المُؤْمِنِِينَ مِنَ الغِنى * وَأَنْتَ كَأَنَّكَ حِينَ تَسْأَلُ جَعْفَرُ

أَيْ بِرَغْمِ فَقْرِنَا وَجُوعِنَا؛ فَإِنَّكَ جَعَلْتَني مِن حَيْثُ لاَ تَدْرِي أَمِيرَاً لِلْمُؤمِنِين؛ بِرَفْعِكَ إِليَّ حَاجَتَك، كَمَا يَرْفَعُ النَّاسُ حَوَائِجَهُمْ إِلَيْه " ٠

وَتُذَكِّرُنِي هَذِهِ الحَادِثَةُ أَيْضَاً؛ بحَادِثَةٍ مُشَابِهَةٍ حَدَثَتْ مَعَ البُحْتُرِيِّ الشَّاعِر:

كَانَ بِالصَّحْرَاءِ وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الجُوع، وَبِيَدِهِ حَرْبَة، يَنْتَظِرُ أَنْ يَتَعَطَّفَ عَلَيْهِ غَزَالٌ فَيَقْتُلَهُ وَيَأْكُلَه، فَطَلَعَ عَلَيْهِ ذِئْبٌ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَه، فَقَالَ في نَفْسِهِ: أَنَا جَائِعٌ أُرِيدُ غَزَالاً آكُلُه، وَأَنْتَ يَا ذِئْبُ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَني ٠٠؟!

فَطَعَنَهُ بِالحَرْبَةِ فَأَنْفَذَه، ثُمَّ رَقَّ إِلَيْهِ بَعْدَ قَتْلِهِ فَرَثَاهُ قَائِلاً:

طَوَاهُ الطِّوَى حَتى لَقَدْ مَلَّ عَيْشَهُ * فَمَا فِيهِ إِلاَّ العَظْمُ وَالرُّوحُ وَالجِلدُ

رَآنِي وَبِي مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ مَا بِهِ * بِبَيْدَاءَ لَمْ تُعْرَفْ بِهَا عِيشَةٌ رَغْدُ

فَمَا ازْدَادَ إِلاَّ جُرْأَةً وَصَرَامَةً * وَأَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ مِنهُ هُوَ الجِدُّ

فَأَوْغَرْتُهُ رُمحَاً فَجَاءَ بِمَقْتَلٍ * كَمَا كَوْكَبٍ يَنْقَضُّ وَاللَّيْلُ مُسْوَدُّ

يَاسِر الحَمَدَاني ٠

<<  <   >  >>