واستمر الحصار ولم يغن أهل قرطبة ما فعلوه إلى أن هلكت الناس. ولم يزل المستعين ومن معه من البربر حتى دخلوا قرطبة عنوة٤٠٠هـ، وحبس المستعين هشاماً المؤيد وكان المؤيد يشتغل بالملاحم فوقف على أن دولة بني أمية تنقرض من الأندلس على يد علوي أو اسمة عين. ولما بلغهم وهو محبوس دخول علي بن حمود على المستعين دس إليه هشام أن الأمر صائر إليه. وأن الرجل يعني سليمان سيقتلني فإن فعل فخذ بثأري منه.
ولما تملك سليمان ظن أن أموره قد استحكمت وثبت البرابر والعبيد على الأعمال العظيمة والمدن مثل باديس بن جيوش في غرناظة والبرزالي في قرمونة وافترق شمل الجماعة ولم يبق بيد سليمان غير قرطبة. وضاقت به وبمن نعه ونزل ابنا حمود علي والقاسم قائداً افريقية بما يتصل بها. وامتحن هشام المؤيد بالله وسليمان المذكور عند دخوله القصر, فقيل قضى عليه وقيل هرب منه، ولما أحس سليمان بزوال ملكه، جعل علي بن حمود ولي عهده وأرسل إليه بذلك إلى سبته، فذكر منه ناسياً، وحرك منه ساكناً، ولما وثق سليمان بأمره وظن أنه قد استراح من هشام عدوه تلطف علي بن حمود في إزالة سلطانه والاستيلاء على ملكه والإذهاب لدولته. فكان غلط سليمان مما لا يستدرك فارطه، ولا يتلاقى فايته.
ولما حصل علي بن حمود ومن معه بالقصر سأل عن هشام، وكان يظنه حياً وأعلم أنه مات. ودل على قبره فاستخرجه منه ولم ير فيه شيء من أثر السلاح فظن أنه خنق. وخوطب سليمان في أمره فأنكر أن يكون قتله ثم جددت أكفانه ونودي في الناس للصلاة عليه، وأحضر على سليمان بعد ذلك فضرب عنقه بيده وجزع جزعاً شديداً عند مشاهدة السيف ثم ضرب عنق أبيه وعنق ولده وأخرجت رؤوسهم في طشت إلى المحلة ونودي عليهم، وأضيفت إليها رؤوس جماعة من البرابرة الخارجين بالأندلس. وكتبت على كل رأس رقعة باسمه فعجب الناس من اجتماع رؤوس ضاقت الأرض بها. ولما قتل سليمان بين يدي والده هشام قال والله ما قتله، فأمر به فقتل بعده، قال وكان رجلاً صالحاً تقياً لم يدخل من أمر ولده في شيء رحمه الله.
فصل في ذكر المستظهر بالله ابن المطرف عبد الرحمن ابن هشام بن عبد الجبار الناصري. قال ابن بسام كان هذا ممن تقاذفت به الأسفار، وحنكته التجارب. دخل قرطبة مستخفياً أيام القاسم بن حمود وشهد الفتنة الحادثة بين البربر وأهلها، وهم بالوثوب فلم يصح له شيء مما أراد. وأنكر الوزراء أمره بقرطبة فتجردوا لطلبه وسحبوا جماعة من أصحابه إلى أن جرى ما أوجب الشورى فأجمعوا خاصة الخاصة والعامة والرجال بالجامع لمشاهدة مبايعة من يُختار من هؤلاء لأمر الخلافة.
قال ابن حيان: وكنت حاضراً بالمقصورة فكان أول من وافى منهم سليمان بن المرتضى جاء مع عبد الله بن فحامس الوزير في أبهة وشارة ودخل من باب الوزراء الغربي، والسرور باد عليه، وتلقاه أصحابه وأجلس على مرتبة لا يشك في تمام الأمر له. فبينما هم على ذلك إذ غشيتهم ضجة عظيمة وزعقه هائلة ارتج لها الجامع واضطرب لها من بالمقصورة، فإذا عبد الرحمن بن هشام المبدأ بذكره قد وافى من الجانب الشرقي في خلق عظيم من الجند والعامة فراع الوزراء ذلك وألقوا للوقت بأيديهم، وخذلتهم خيلهم. ودخل عبد الرحمن المقصورة، فبويع من وقته، فاستدعى سليمان بن المرتضى فجيء به مبهوتاً فقبل يده وهنأه وبايعه وأجلسه إلى جانبه، ثم وافى سليمان بن محمد بن العراقي فقبل يده وبايعه. ثم عقدت له البيعة في شهر رمضان في سنة أربع عشرة وأربعمائة.
وكان أحمد بن دبرن قد تقدم في عقدها باسم سليمان بن المرتضى فكشطه كتب اسم عبد الرحمن مكانه فكان ذلك من العجايب. ثم ركب وحمل سليمان وابن العراقي معه فحبسهما عنده وقدم مشيخة الوزراء من بقايا مواليه وجماعة من الأغماد على جميع رجاله، فأحقد بهم أهل السياسة، فكان ذلك من أسباب انتقاض دولته، وأقر بقية أصحاب الخدم في مراتبهم في المدينتين الزهراء والزاهرة؛ وهي التعقب والمحاسبة والطعام والحسم والناض والمواريث والطراز، والمباني والأسلحة والحزانة، للقبض والنفقة والاهزاء والوثائق، وكتب المظالم وخزانة الطب والحكمة، والإنزال والنزائل وخدمة أحكام السوق.