قال أبو مروان بن حيان: كان منذر بن يحيى صاحب سرقسطة، رجل من عرض الجند وبرقت به الحال، إلى أن صار قائداً في آخر دولة آل عامر، وتناهى أمره في الفتنة إلى نيل الإمارة، والانضمام من العسكر إلى الثغر إلا علا لمدة وإقطاع وكان أبوه يحيى من الفرسان غير المذكورين، وكان منذر هذا مشكور الفروسية سمح النفس، متعلقاً بطرف من الكتابة إلا أنه كان شديد الغدر قليل الوفاء.
وأن هشام قد أحسن إليه واصطنعه وأسلمه لحتفه. وباع دماء عشيرته أهل قرطبة من البرابرة مجاناً من غير ضرورة. واستجاره محمد بن سليمان أميره في نكبته فقتله وهو ضيفه، إلا أنه كان كريماً يهب الأموال العظيمة. وعمرت لذلك سرقسطة حتى أشبهت الحضرة الكبرى قرطبة أيام الجماعة فحسنت أيامه وكثر مداحه وكان كثير التهالك في حب الدنيا والشهوات، فاتخذ الجواري الحسان، وملاح الغلمان، فحصل عنده من ذلك كل غريبة وغريب. وكان في أول ولايته قد ساس عظيمي الفرنجية وهاداهم حباطه الثغر وأهله. وكذلك رؤساء الجلالقة فحفظت أطرافه وكتفه المعمرة عن عمله وربما أوقع ببعض أصاغر القراميس في أطرافهم، وسبى منهم والجلالقة باقون على معاهدته إلى أن مضى لسبيله، والثغر مسدود.
وبلغ من استمالته لأرمند وشانجه طاغيتي الفرنج، أن جعل تصاهرهما على يده. وكتب عقد النكاح بحضرته في سرقسطة، في جمع من أهل الملتين. فانبسطت عليه ألسن المسلمين لأجل ما فيه من سوء العاقبة. وقد قيل أن الرأي كان مع منذر في ذلك، وإنما أراد به ستر العورة واختداع عظيمي الفرنجة الطاغيتين المحدثين أنفسهما بمناهضة أهل الأندلس. فألهاهما عن الطاغيتين الحرب فعاش المسلمون في نعمة صافية وعيشة راضية إلى أن مات منذر. وما انتفع الطاغتين بالصهارة وهلكا وكفى المسلمون شرهم.
قال ابن حيان وأخبروني الكاتب أبو أمية ابن هشام القرطبي قال: اجتاز بنا القومس بتطيلة، صدر أيام المنذر ووالينا من قبله سليمان بن هود. فسلك مجتازاً طرف الثغر الأعلا للاجتماع بالقومس ريمند صاحب برشلونة، عن علم من منذر، فأنكر أهل تطيلة وذهبوا إلى أخفار أميرهم منذر وانتهى ذلك إلى الطاغية شانجه فلما شارف البلد أرسل يستدعي قوماً من أعيانهم يكلمهم في تخلية سبيله. فدخلنا إلى منزلته فحدسناها ستة آلاف ما بين فارس وراجل. لم يكن احتفل في حشده ووصلنا إلى مضربه، فإذا هو جالس على مرتبته، وعليه ثياب من ثياب المسلمين، ورأسه مكشوف. فكلمنا بكلام لطيف حسن بين فيه حسن وجه، حسن سيرة. وذكر ما وافق عليه والينا من الاتفاق معه فعرفناه كراهة من ورانا لاجتيازه فنهانا عن ذلك وذكر الحرب وعدواها فانصرفنا عنه وأدينا قوله إليهم فلم يقبله عامة الناس، وخرجوا إلى عجل أنطأت في سافنه تحمل أزواد أهل عسكره يريدون نهبها، عاصمين للمشايخ, فانتهى ذلك إليه فنفذ من أصحابه مقدار خمسمائة فارس ثاروا في وجوه الناس. فخرج أهل البلد بأسرهم مدافعة فحمل من الخمسمائة قطعة فولى الناس الأدبار، حتى اقتحموا باب المدينة. ثم كفوا عنهم ومضى لوجهه. ولم يؤاخذهم بما بدا منهم.
[ذكر الخبر في مقتل منذر]
قال ابن حيان: فأما مقتل منذر فإنه مكان على يدي رجل مارد من بني عمه يقال له عبد الله بن حكم. وذلك أنه أضمر الفتك به دهراً طويلاً، ودخل عليه يوماً في مجلسه غرة ذي الحجة سنة ثلاثين وأربعمائة وهو غافل عما يراد به. عليه غلاله، وليس عنده إلا نفر من خواص خدمه الصقالبة قد أكب على كتاب يقرؤه فضربه بسكين كان معه فقتله وهرب الغلمان. وأخرج رأس منذر لوقته من قصره فوق قفاه ينادي عليه: هذا جزاء من عصى أمير المؤمنين هشاماً. فنزلت سرقسطة حادثة عظيمة، وأشرف أهلها على فتنة عظيمة. وطمع فيه أكثر من كان يجاورهم فاضطربوا إلى تمليك البلد له. وكان سليمان ابن هود الجذامي مقيماً بتطيلة بجمعه فسارع إلى سرقسطة رجاء دخولها فمنعه عبد الله منها. ثم جاء إسماعيل بن ذي النون خال منذر فاتصلت الفتنة، وامتنع عبد الله من مقصده ونال أهل سرقسطه جهد شديد. وأقدم عبد الله هذا على ما لم يقدم عليه أحد من قتل منذر في داره وبين كماته.