فصل كان الفقيه الحافظ عبد الوهاب بن نصر المالكي البغدادي من أعيان الفقهاء، وجلة العلماء. ولما استقل ركابه من بغداد، خرج جماعة من أكابرها وأصحاب العلوم بها يودعونه فقال: والله يا أهل بغداد لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل يوم ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية والخبز عندهم يومئذ ثلاثمائة رطل بدينار، وأنشد:
سلام على بغداد في كل منزل ... وحولها مني السلام المضاعف
لعمرك فارقتها فيها قالياً لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت على برحها ... ولم تكن الأرزاق فيها بساعف
فكانت كخل كنت أهوى وصاله ... وتأبى به أخلاقه وتخالف
[فصل في ذكرى خراب القيروان]
والإشارة إلى أخبار آل زيري الغالبين عليها مع ما يتصل بذلك.
قال علي بن بسام: لما تغلب آل عبيد الله الناجمين بافريقية على مصر وخلصت لهم، واستقلت بهم وأراد معد بن إسماعيل بن عبيد الله الملقب بالمعز لدين الله أن يتمكن فيها، دعا زيري بن مناد وهو يومئذ من صنهاجه بمكان السنان من الغارب، وكان له عشرة من الولد، وأمره بإحضار أولاده. وكان بلقين بن زيري أصغرهم سناً، فلم يحضره، قالوا وكان عند المعز أمارة من علم الحدثان قد عرف بها مصائر أحواله. وكانت عنده لخليفته على افريقية إذا صار إليه ملك علامة يأنس بها. فنظر في وجوه بني زيري فلم يجدها فيهم. فقال لزيري: هل غادرت من بنيك أحداً؟ فقال: نعم، تركت غلاماً صغيراً وأخذ في تهوين أمره. فقال له المعز: لابد من حضوره. فلما أتاه عرفه بالعلامة. ففوض إليه الأمر من وقته، واستولى على الأمور، واشتهر إلى الملوك ودوخ البلاد وواصل الغزو ووصل إلى سبتة. وانتقل الأمر فيهم إذ انتهت إلى المعز بن باديس وهو آخر ملوكهم.
وأول ما افتتح به شأنه، قتل الرافضة، ومراسلته أمير المؤمنين ببغداد. فكتب إليه العهود وجاءته الخلعة واللقب من الخليفة، واتصل ذلك بصاحب مصر وأمر دولته يدور على الجرجرائي الوزير فأضغنها عليه، وكانت بطون عامر ابن صعصعة؛ زغبة وعدي والأنبح ورباح وغيرهم من ألفاف عامر تنزل الصعيد لا يسمح لهم بالرحيل، فتقدم لهم الجرجرائي بأن يسيروا إلى ابن بادريس بالقيروان. فغشية منهم سيل العرم وتهاون المعز بن باديس بهم فشغلهم بخدمته، وهم في خلال ذلك يطلعون على عوراته ويسرعون إلى حماته. ولم يزل الأمر على هذا السبيل حتى هان عليهم سلطانه فجاهروه بالعداوة ووقعت بينهم حروب في أوقات مختلفة كان آخرها وقعة حيدران في سنة أربع وأربعين، ثل فيها عرشه وهدم بها ركنه وأحاط العرب بالقيروان من جوانبها.
فلما كانت سنة خمس أعطى مواليه ورغب في الاتصال بهم لكفاية شرهم، فزف بناته إلى زعمائهم وصاروا أصهاراً. ولما استحكم يأسه احتمل غرمه، واحتمى بمن اتصل بهم، حتى بلغ المهدية فأقام بها، وكان من مشهوري الكرم حتى أنه أعطى المنتصر بن خرزون، في دفعة واحدة مائة ألف دينار خارجاً عما وصله به ولم يقم بالمهدية عامين حتى انقضت أيامه وأتاه حمامه.
وهذا آخر ما وجدته من (مختصر الذخيرة) ونقلته من مسودة المصنف الأسعد بن مماتي رحمه الله، وفرغت منها يوم الأحد المبارك حادي عشر من رجب الحرام من شهور أربعة عشر ومائة بعد الألف من الهجرة، وكتبه الفقير يوسف ابن محمد الميلوي غفر الله له.