ولما فرغ منه استدعى قاض البلد ومشايخه فدخلوا إليه ومنذر قتيل إلى جانبه فبسط عذره عندهم، وأمرهم بتسكين من ورائهم وتفرقوا عنه، واختلفوا عليه، وقاتلوه فخرج من باب سر في القصر. واستصحب من فاخر ما اشتمل عليه من ذخائر منذر ما أمكنه ولحق بحصن رنطة اليهودي أحد معاقل سرقسطة المنيعة. وقد كان أعده لنفسه فأقام به يرصد الفتنة. وكان حمل معه إلى هذا القصر أخوي منذر ووزيره وغيرهم من رجال منذر، مقيدين فحبسهم عنده وطالبهم بالأموال.
ونهب العوام قصر سرقسطة إلى أن قلعوا منه المرمر وطمسوا أثره لولا تعجيل سليمان بن هود ملك البلد.
قال علي ابن بسام: وذكرت بهذه الفتكة ما اتفق من مثلها بقلعة حماد وهي على طرفاً أفريقية الأدنى إلى الأندلس. وذلك أنه لما أفضى ملكهم إلى بلقين بن محمد أحد الجبابرة، وكان شديد البأس، حدث أنه عاد مرة من بعض غزواته فارتاح إلى ما يرتاح إليه الناس من الخلوة والدعه. فجلس لذلك في بعض مجالسه، وقام بإحضار ما يصلح من آلاته، وأمر القهرمانة بإحضار إحدى عقائله من بنات عمه، وكانت بارعة الجمال فائقة الكمال فوافته القهرمانة بها. وقد خطر له ذكر غزوة يشرع فيها فغاص في الفكر والتدبير والكأس في يده وابنة عمه واقفة على رأسه وهو لاه عنها إلى أن طلع الفجر ثم حانت منه التفاته فرآها فاعتذر إليها ووضع الكأس من يده. وختم عليها وركب فغزا غزوته فاس ثم رجع فجلس في ذلك المجلس لعينه وأخذ تلك الكأس المختومة، واستدعى ابنة عمه المذكورة فخلا بها وقضى لذته منها بعد مدة طويلة ولما ظن أن الأمر قد استوثق والدهر قد أصحت قيض له ابن عمه الناصر وكان أصغر خلق الله شأنا عنده وأهونهم عليه. وقد كان بعض نصحائه خوفه منه, وكان لا يركب إلا دارعاً على عادة له قبل ذلك، ومولعاً بالادلاج إذا رحل مؤثراً للانفراد إذا ركب. فأقسم أن لا يدلج إلا حاسراً ليقتلني الناصر قولاً واحداً، وركب فلقيه الناصر كأنه يسلم عليه أو يسير بين يديه فما راجعه الكلام حتى خلله السيف ورفع رأسه على رمح وسير به أمامه. والناس وقال: أنتم تعلمون أن بلقين قتل أخي، وقد شفيت منه صدري وأخذت بثأري، وما حدثت نفسي بغير هذا ولا رأيت الدخول في شيء من أمركم. فردوا عليه جميلاً وظنوا أنه لم يجسر على ما فعله إلا وله أشياع وأتباع فكفوا عنه وعطف على خزائن بلقين فأنهبها للعربان فاستمال بذلك قلوبهم واستخلص به طاعتهم، ورحل تحت جنح الليل على قلعة فوطئ الحرم وتملك الحجر.
[أبو القاسم الإقليلي]
فصل قال ابن حيان: كان أبو القاسم المعروف بابن أبي الإقليلي قد تقدم أهل زمانه بقرطبة في العربية والضبط لغريب اللغة. وكان كثير الحسد لأهل هذا الشأن، وكان جاهلاً بعلك العروض. وشهد الفتنة البربرية بقرطبة، وتعلق بخدمة آل حمود ومن تلاهم إلى أن ارتفع قدره وعظم جاهه. واستكتبه المستكفي محمد بن عبد الرحمن بعد ابن برد. فوقع كلامه جانباً من البلاغة ولمك يجر على أسليب الكتابة فزهد فيه. ولم يؤلف سوى كتابه المشهور في شعر المتنبي ولحقته تهمة في دينه في أيام هشام المرواني فطلب وسجن بالمطبق ثم أطلق.
[أبو عامر بن المظفر]
قال ابن بسام: لما استوحش أبو عامر بن المظفر من هشام المؤيد ووزيره حكم بن سعيد القزاز، وكان قد اتهم بذنب سليمان بن هشام الناصري، خرج في جماعة من ثقاته، وحمل معه عيون ذخائره وخاصة حرمه، وقطع أرضاً بعيدة فلم يعلم المؤيد به إلى أن جاءه خبر اجتيازه بدير قرطبة، راجعاً على عقبه من شاطبه، إذ لم يتفق له فيها ما أراده وتوجه إلى أن عبد الله بقرمونه مستجيراً به فلم يجره. وتقدم إلى نوابه بمنعه من المرور بشيء من عمله فضاقت به الأرض فألقى نفسه على أبي حمامة بن جرير البصدراني فأجاره وأنزله في حصنه على نهر قرطبة، ولم يزل على ذلك إلى مات عنده.