[الفن الأول]
[من لطائف الذخيرة وطرائف الجزيرة]
[بسم الله الرحمن الرحيم]
[قال ابن مماتي]
الحمد لله الذي أطلع بدور الفضائل من أفق المغرب، وجمع لهم شوارد المعاني فارتبطوا منها كل معنى مرقص ومطرب، وأباح لهم رياض البلاغة فاقتطعوا منها كل زهر مؤنق معجب، وفتح لهم مستصعب كنوزهم ففازوا منها بالذخائر، وعرفهم حل رموزها فعقدوا من إكسيرها ما قصر عن شأوهم فيه زكريا وجابر.
والصلاة والسلام على من آمن برسالته الثقلان، وأخرس بفصاحته كل منطيق ملسان "المؤيد بأقوى حجة وأقوم برهان، المخصوص بمعجزة القرآن، الذي رد عنه طرف من أراد معارضته حسيراً، حين تلا عليهم "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان لبعضهم لبعض ظهيرا".
صلى الله عليه وعلى آله ذوي الأوجه الصبيحة، والألسن الفصيحة، وأصحابه الذين أرشدوا الخلق، وهدوا من ضلّ في تيه الضلال إلى منهج الحق، وقاموا بعده بتبليغ دعوته حتى طبقت الغرب والشرق.
وبعد: فلما عضّني الدهر بنابه، وأرغى بي كل غُمرٍ ليس بنابه، رأيت أن الخلاص من أشراك مصائده، فالتوقى من سهام مكائده، لا يُنال إلاّ بالأسفار، وهي بارتكاب الأخطار، فخرجت من مصر خائفا أترقب، هائما لا أدري أين أذهب، حتى أدناني الهرب، إلى مدينة الشَهبَاء حلب، فلجأت إلى جانب سلطانها الملك الظاهر، وتفيأت من ظلال دولته ما أذهب عنّي حرّ الهواجر، وحين وجدته ملجأ للجاني، ومأمنا للعاني، وحرما لا تنفر أطياره، وطودا لا تسهل أوعاره، أنخت به مطايا الترحال، واطلعت بواعث الآمال في المرور من خدمته ببال الإقبال، وقطعت الأهوال في الوصول إليه مختفيا من الرقباء كطيف الخيال، ولحظ خدمتي، وحفظ حرمتي، وأجمل وفادتي، وأجزل إفادتي، وأجراني في الإكرام والاحترام على أنفس عادة سعادتي، وبسط أملي بلسان الإحسان، وقبض وجلي بما أعطاني من الزمان الأمان".
تكفل بي الوزير الصاحب الأجل العالم الصدر الإمام الفاضل الكامل، نظام الدين، شمس الإسلام والمسلمين، سيد الوزراء، أوحد الفضلاء، رئيس الرؤساء، تاج الملة، عضد الدولة، كهف الأمة، عمدة الأئمة، خلاصة الخلافة، شرف الإمامة، ذو المآثر والمفاخر مصطنع أمير المؤمنين، ذو البلاغتين، محمد بن الحسين"- أدام الله نفاذ مراسمه، واستحواذ مكارمه، وأمضى عزمه في كف الدهر ورفع مظالمه، فلا زالت أقلامه سود اللمم، شواب الهمم، جارية بأرزاق الأمم، متحدثه ألسنها بما يبهج الموالي ويزعج المعادي من أخبار النعم والنقم، ساعية على رؤوسها في الخدمة الظاهرية بما تظهر به أعلام فتوحها ظهور النار على العلم،- وتلقاني من عام إنعامه بما اقتضته هممه، وتوخاني من إتمام اهتمامه بما أمضته شيمه، وضاعف امتنانه لدي، وملأ بكرمه عيني فضلاً عن يدي، وعاملني بما سرّ القلب، وجاملني بما سرّى الكرب، وجمع لي فيما بين ماله وأدبه، وأطلق خاطري بما أطلق يدي فيه من خزانة كتبه.
فكان من جملتها "كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، تأليف أبي الحسن علي بن بسّام - رحمه الله -، وهو كتاب جليل المقدار، جميل الآثار؛ منتظم من عقود عقول الفضلاء، وفصوص فصول الأدباء، ما تغص به الأقطاب والأقطار، ويملأ ساحات ساعات الليل والنهار، وأشار -أبقاه الله- إلى أن أختارَ منه الطائل الطائر، ويُقتصَر فيه على النادّ النادر فبادرت إلى المرسوم، وثابرت على العمل بالمفهوم".
ووجدت الكتاب المشار إليه يشتمل على أربعة أقسام: الأول: فيما يختصّ بقرطبة وما يصاقبها من مواسطة الأندلس.
والثاني: فيما يتعّلق بالجانب الغربي من الأندلس واشبيلية وما يتّصل بذلك من بلاد البحر المحيط.
والثالث: في ذكر أهل الجانب الشرقي من الأندلس إلى منتهى كلمة الإسلام هنالك.
والرابع: فيمن طرأ على الجزيرة من الفضلاء والأدباء ووصل ذلك بذكر من نجم من الشعراء بافريقية وغيرها من الشام والعراق.