وكان ابن الأفطس قد استدعى خليفة إسحاق بن عبد الله، فلحقت به خيله مع ابنه أبي العز، بعد أن جمع بقايا جيشه، وأخرج كل من قدر على ركوب دابة من البياض من رجال البوادي فحمله، وهم خلق كثير، وأقبل بجيشه لدفع جيش ابن عباد عن بلده. قد كان برابرة خليفة إسحاق قالوا له: لا تتبعهم فمالك بهم طاقة، ونحن قد شاهدناهم وعرفنا حالهم باشبيلية فلم يسمع منهم، ومضى فالتقى الفريقان على طريق من غير نزول فاختلطوا وتجالدوا وحقق العباديون الضراب، وتابعوا الشدات وانحازت عنه برابرة إسحاق فانهزم ابن الأفطس، وحمل السيف على جميع من معه فاستأطلهم القتل. وقتل ولد إسحاق وجز رأسه وبعث بها على اشبيلية مع رأس لابن عم ابن الأفطس ونجا ابن الأفطس، في قطعة من خيله.
قال ابن حيان: وذكر أن عدة القتلى في هذه الواقعة يزيد على ثلاثة آلاف رجل. قال حدثني من أثق به أن بطليوس أقامت مدة خالية الدكاكين والأسواق لاستئصال أهلها بالقتل في وقعة ابن عباد وجزع إسحاق بن عبد الله على ولده.
[فصل فيما يتعلق بأخبار المستكفي]
قال علي ابن بسام، قال أبو حيان: هو محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله الناصري بويع يوم قتل عبد الرحمن الناصر المستظهر، يوم السبت لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة. ولقب بالمستكفي بالله باختيار منه له، وكان كثير التخلف بادي العجز لا أهلية فيه لما ارتقى إليه، وإنما الله أرسله محنة وبلية وسخطة ونعمة. وكان من الفقر المدقع بحيث أنه يسأل الفلاحين بقرطبة في الصدقة عليه بزكاة غلاتهم، ويخاطبهم في ذلك بلسانه، ويلقاهم فيه بوجهه. وقال وأجمع أهل التحصيل على أنه ما ولي الإمارة قط أدنى منه ولا أنقص.
ولما اعتقل بنو عمه وأهل بيته في الدولة المحمودية فما رأوه أهلاً للاعتقال احتقاراً له، فأفضى به الأمر إلى الإمارة، وهو ثالث خليفة قام في هذه السنة، الأول القاسم بن حمود، الثاني عبد الرحمن المستظهر، والثالث هذا محمد المستكفي. وانحل في أيامه النظام وأباح الناس بالمحظور وتسمى كل من الأخساء بما أراد من أسماء الأجلاء، وانحطت المراتب واشتدت المصائب، وقبض على جماعة من بني عمه ووجوه أهله، وقتل ابن عمه عبد العزيز العراقي خنقاً، ونعاه إلى الناس ولم يخف عنهم فعله. وفي أيامه كمل خراب قصور جده الناصر. وطمست أعلام قرطبة وقصر الزهراء، واقتلع نحاس الأبواب ورصاص المداري، وغير ذلك من الآلات، فطوى بخرابها بساط الدنيا إذا كانت جنة الأرض. فلما كانت سنة ست عشرة وتحول يحيى بن حمود على قرطبة وضعف أمر المستكفي، اتفق الخلق على خلعه, ودخلوا عليه وقالوا قد علم الله اجتهدنا في تثبيت أمرك واعتياصه علينا واضطررنا إلى مقاومة عدونا وها نحن خارجون إليه ووما ندري ما لعله يحدث عليك بعدنا، فإن تكن لك الكرة فلا تيأس فإن مع اليوم غداً. فأجمل الرد عليهم واستشعر الذل، وعزم على الهروب. فخرج على وجهه، وقد لبس ثياب النساء بين امرأتين لم يميز منهما لغاية التخنث عليه، وخرج من قرطبة فمات بإقليش فكانت دولته سبعة عشر شهراً.
[فصل في ذكر الأديب أبي عبد الله محمد بن الحناط]
قال ابن بسام، قال ابن حيان: أنه توفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، بالجزيرة الخضراء في كنف الأمير محمد بن القاسم. ثم مات ولده الذي لم يكن له سواه بمألفه فاجتثت أصله وكان أوسع الناس علماً بعلوم الجاهلية والإسلام. والآثار العلوية، والهندسة والطب، والفلسفة والآداب، وتعارف الأحوال، مضطرب التدبير.